تقارير ودراساتمقالات و تحليلات

في ثقافة الهوية والاحتلال والديكتاتورية / ميسون شقير

ميسون شقير كاتبة وصيدلانية سورية

شعب بلا هوية هو شعب بلا وجود، هذا ما تراهن عليه إسرائيل منذ بداية مشروعها الاستعماري، فهي تراهن على كسر مقومات الهوية للأجيال الفلسطينية القادمة نهائيا، كي تضمن بذلك انهيار كل مقومات وجود شعب هو من أعرق شعوب الأرض، هي تدرك تماما أن الإنسان حين يفقد دعائم هويته الحضارية، سيفقد ذاته، ويفقد قدرته على أية مواجهة، وسيتحول إلى كائن ضائع/ مقزوم الأحلام والشخصية، متخبط يأكل نفسه بنفسه، وغير قادر على تحقيق أي فعل جمعي، وعلى تحقيق أي انتصار.

 

لقد قدَّم عالِم النفس الاجتماعي “تاجفل” نظريَّة الهويَّة الاجتماعية عام 1972؛ بأنَّها: “جزء من مفهوم الذَّات لدى الفرد، يُشتقُّ من معرفته بعضويَّته للجماعة أو الجماعات، مع اكتسابه المعاني القيميَّة والوجدانيَّة المتعلِّقة بهذه العضوية، وذلك في علاقته بالتكوين الاجتماعيَّ الذي ينتمي إليه، والتي عن طريقها يتعرَّف عليه الآخرون”، وبالتالي فالهوية هي عبارة عن كيان يصير ويتطوَّر، إمَّا في اتِّجاه الانكماش، وإمَّا في اتِّجاه الانتشار والنمو”.

 

ووفقًا لـ”أمارتيا صن” فإنه يمكن أن يقدِّم الشعورُ بالهويَّة مساهمةً مهمَّة لجعل العلاقة مع الآخرين قويَّة ودافِئة، وهذا ينطبق على العلاقة بين المواطنين أنفسهم من أبناء الوطَن الواحد باعتباره أحد مصادِر “الثَّروة” مثله مثل رأس المال. اذ يراهن عليه بإعادة إحياء الشعوب لذاتها ولقدراتها ولشخصيتها الحضارية، وقد أضاف تاجفل بأن زرع وتأكيد الانتماء هو صمام الأمان لبقاء الشعوب، لذا قيل “إن روح الشعب تكمن في تراثه الشعبي” و”إن شعبًا بلا هوية، هو شعب بلا وجود”، فمعرفة الذات وتوكيدها والبحث عنها، هي مسألة حضارية ضرورية لأن فِقدان الهويَّة واضطرابِها وأزمتها، يؤدي إلى شعور الفرد بالعزلَة والاغتراب واليأسِ والتشاؤم، فيبدأ عندها انحلال الشخصيَّة، وتتضح معالم ازدواجيَّتها، وينمو في داخلها صراع القِيَم ويحولها إلى شخصية مترددة، عصبية، متطرفة، سلبية تجاه كل ما يحيط بها، كارهة لكل مفهوم الوطن والانتماء، ويحول المجتمع كله إلى مجتمع مفكك، متحارب، طائفي، وقبلي. وقد كان من الطبيعي أن تقوم كل الدول الاستعمارية بمحاولات دائمة لطمس الهوية الثقافية للشعوب المحتلة، وأن تراهن على أجيال جديدة بلا ذاكرة، من خلال تحطيم مستمر وممنهج ومدروس لهذه الذاكرة، وهو ما يعني الحصول على أجيال أضعف وأسهل للتحكم بها، وهذا ما تقوم به “إسرائيل” منذ بدء تكوينها مع الهوية الحضارية والذاكرة التراثية للإنسان الفلسطيني، ولعل الظرف الآن على الصعيد العربي والدولي والعالمي هو أنسب الأوقات لسرقة القدس بكل بعدها التاريخي والحضاري وبكل رمزيتها المؤكدة للوجود الفلسطيني، ورمزيتها الدينية التي تتمثل في الأقصى، ولعل ما نراه اليوم من عهد التميمي، تلك الطفلة التي بكل جرأة استطاعت أن تغير رهان اسرائيل على موت القضية مع التقادم الزمني.

 

عهد تعري الفكر الاستعماري أمام العالم، وتسقط كل ما حاوله هذا الفكر من طمس لهذا الوعي العميق للهوية الحضارية، لكن من المفاجئ، ومن الموجع، أن يكون والد عهد بكل تلك البساطة، وأن يحوله العجز العربي والفلسطيني والعالمي أمام اسرائيل إلى شخص لا يعي حقيقية دور النظام السوري في كل مجريات القضية الفلسطينية. ويتحول إلى مستغفل للدعاية  التي صنعها النظام السوري مع حزب الله لنفسه.

 

لقد ساعد النظام السوري اسرائيل طيلة مراحل وجوده، فلم يطلق عليها رصاصة، بل قتل أي تجمع فلسطيني هام وساعد فقط الحركات الأصولية التي تُجهض، على الحركات العلمانية التحررية الفلسطينية، فهو بطل “أيلول الأسود”  في الأردن و”تل الزعتر”، وهو المساهم في ما حصل للفلسطينيين في لبنان، كما أنه مذ استلم هذا النظام الديكاتوري السلطة، أي منذ ما يزيد عن أربعين عاما، حرص على تحطيم المقومات الثقافية للإنسان السوري فقد قام ببناء أسوأ سجونه وأكثرها رعبا في أهم المعالم التاريخية السورية، وذلك لتكسير بعض أسماء هذه الأمكنة في وجدان الذات السورية، فها هو اسم تدمر يتحول من اسم لأهم معلم حضاري سوري لاسم سجن لا أحد يستطيع تخيل مدى الرعب الذي عمره نظام البعث فيه، وتتحول صيدنايا من مدينة لأقدم تاريخ مسيحي في سورية، ولأعرق دير في العالم، إلى اسم لسجن قام فيه النظام السوري بإعدام ما يزيد عن خمسة عشر ألف معتقل مدني كل ذنبهم أنهم تجرؤوا على الحلم بوطن عادل وهوية مشرفة.

 

منذ بداية الثورة السورية النبيلة حرص النظام على اللعب بمفهوم الهوية، لأنه يعرف تماما تأثيره على الفرد، وعلى قدرته على المواجهة والدفاع، لذا فهو بالإضافة إلى عمليات الإبادة والاعتقال التعسفي، والتهجير الممنهج الطائفي الذي افتعله النظام لأهم مكونات الشعب السوري، لم يزل يحاول طمس ملامح الهوية الثقافية وإضعاف دواعم الذات، وافتعال وتشجيع الحس العنفي والطائفي، ولخلق حالة عامة من الاقتتال والفوضى التي تدعم مبررات وجوده.

 

بسبب النظام السوري القاتل وصراعه المستميت للبقاء في السطلة تحولت سورية لدولة ضعيفة مكسورة، ومحتلة، وبسببه استطاعت اسرائيل قصف كل المواقع العسكرية الهامة، والآن صار الوضع السوري هدية قدمها النظام لاسرائيل على طبق من فضة ودم، دمر الجيش السوري الذي كان من الممكن يوما أن يشكل ما يهدد اسرائيل، ودمر الانسان السوري الذي كانت إسرائيل تخافه.

 

اليوم، العراق ينهشه المد الإيراني وتنهشه الطائفية والحرب التي أشعل النظام السوري نارها وأوقدها بإشعال الفتنة الطائفية، وبزج مليشياته للقيام بالتفجيرات والاغتيالات والتي شارك باستمرارها كل العالم، وتحول لدولة ضعيفة لا تخيف إلا نفسها، أما لبنان فيسرقه حزب الله ومليشياته ويحوله من بلد الحرية إلى بلد الإرهاب.

 

هذا أفضل زمن لسرقة القدس، عالم يحكمه ترامب، ووطن كامل يغرق في دمائه، فلا أحد يستطيع أن يعد الفلسطيني، السوري، العراقي، اللبناني، بقيامة جديدة، ولا حتى بمقبرة.

 

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى