كاتب واكاديمي من العراق يكتب .. شذرات من سيرة الحسن الثاني
كتب ا.د كريم فرمان
ربما لم يواجه ملك عربي في تاريخنا الحديث تحديات صعبة في مسيرة بناء وطن وتحديث بلد مثل الملك الحسن الثاني ملك المغرب الا الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود وولده الملك فيصل رحمهم الله جميعا.
تولى الحسن الثاني مقاليد الحكم بعد وفاة والده الراحل الملك محمد الخامس رحمه الله والذي يكن له المغاربة احتراما كبيرا لشخصه وتضحياته الجمة في نيل الاستقلال ودعم المقاومة الوطنية المغربية ومن قبل معاناته واسرته الشريفة من تجربة نفي الاستعمار الفرنسي له القاسية إلى مدغشقر.
تغلب الحسن الثاني على أول التحديات وهو تعزيز وترسيخ الهوية المغربية التي يدعمها حب المغاربة واخلاصهم لوطنهم ومليكهم.
ثم جابه مؤامرتين كادتا ان توديان بحياته وحياة اولاده فالأولى حدثت في قصر الصخيرات عندما كان يحتفل مع وزراء وسفراء وضيوف اجانب كثر بعيد ميلاده حينما هجم على القصر ضباط وعساكر يقودهم بعض الجنرالات وبمعرفةوزير الدفاع القوي اوفقير والذين ائتمنهم على مقدرات الوطن وذكر بعضهم في التحقيقات فيما بعد ان اوفقير الذي شاركهم عن علم بمخططهم قال لهم عندما اخبروه عن نيتهم بعبارة ظريفة ( اذا نجحتم فانا زعيمكم وان اخفقتم فانا من ينفذبكم الإعدام !!)
وفعلا هذا ما حصل لاحقا وقد اذاع الانقلابيون بيانهم رقم واحد ومن الطريف في هذه المحاولة ان المتامرين اجبروا الفنان عبد الحليم حافظ على اذاعةبيان الانقلاب والذي كان تواجده وقتها محض صدفة لتسجيل اغنية له وقد نجا الملك بحنكته وصموده ووفاء ضباط اخرين موالين له مثل الحنرال الوفي بنسليمان ثم بعد مرور عام يتعرض الملك نفسه وشقيقه مولاي عبدالله ووفد برفقته عائدين من زيارة الى البرتغال لقصف جوي يستهدف طائرتهم في الاجواء المغربية من طرف عناصر مغامرة بخمسة طائرات مقاتلة وكذلك نجا باعجوبة بحيث ان الطائرة هبطت في مطار الرباط سلا ولم يبق في بدنها قدما واحدا ولم تثقبه قذائف الرشاشات.
امتاز الحسن الثاني بثقافة واسعة واطلاع قوي على السياسات الدولية ومد جسور العلاقة مع الشرق والغرب حفظا للتوازن واستقرار المغرب.
إذ ان علاقاته وتحالفه التقليدي مع فرنسا بسبب عوامل عدة لم تمنعه من اقامة افضل العلائق مع الولايات المتحدة الأمريكية علما ان هذه الدولة العظمى عندما اعلنت استقلالها قبل ثلاثة قرون لم تجد من يعترف بها كدولة سوى المغرب !!
حبه وتعلقه باللغة العربية جعله يلقي خطاباته احيانا من دون ورقة بلغة عربية فصحى ولم يخطيء بكلمة واحدة وكم استمعت له كثيرا واستمتعت بذلك وهذا هو حال اغلب المتعلمين المغاربة يتحدثون العربية الفصحى في حياتهم اليومية افضل بكثير منا نحن المشارقة.
عرفت من مقربين منه ان الملك كان يحفظ ازيد من ستة الف بيت من الشعر العربي بل وزد انه كان قبل ان يرقد الى فراشه يستمع الى نشرة اخبار BBC على شكل أبيات من الشعر يرتبها ويلقيها على مسامعه احد مرافقيه الموهوبين في نظم الاشعار!!
أحاط نفسه بمستشارين اكفاء مثل زميلي في كلية الحقوق الاستاذ الدكتور عبد الهادي بوطالب والدكتور ادريس السلاوي والسياسي المحنك ابن فاس الاستاذ احمد بنسودة واخرين ترفع لهم القبعات علما وخلقا ورفعة وخبرة.
رغم ذلك هو يعترف الى الصحفي الفرنسي الشهير اريك رولو بان 60% من قرارته كانت خاطئة، وهذا يحصل مع ملك يقول عن نفسه حكمت المغرب من خلال 16مستشارا من افضل نخب المغرب الثقافية والسياسية!!
وقد ساله رولو هل تخاف بعد كل ما جرى ومما يجرى؟
يجيب بصراحته نعم لا زلت كل ليلة قبل أن ارقد الى فراشي اتحسس وسادتي!!
كان له منطق سياسي ولغوي مميز يشد السامع له ،مرة قال له صحافي أمريكي جلالة الملك هل تاذن لي ان اطرح عليك اسئلة صعبة؟ اجابه وابتسامه تعلو محياه نعم ولكن ايضا اعلم ان هناك اجابات حرجة!!
اتذكر انه كان حليما في محاربته للفساد المالي يجرح ولا يدمي فقد دعاه وزيرا عنده إلى وليمة بمناسبة انتقاله الى دارته الجديدة في حي السويسي الراقي في العاصمة الرباط ولاحظ الملك ان الفيلا كبيرة وفيها من المنافع والديكورات اكثر من المتوقع ويتجاوز قدرات الوزير المالية لقرن كامل فساله يا معالي الوزير كم كلفتك هذه الفيلا الجميلة؟ وهنا اسقط في يد الوزير فاجابه بثمن يقل كثيرا عن نصف الكلفة الحقيقية للفيلا!!
فقال الملك انا اشتريتها منك وسلمه فورا شيك بالمبلغ!! ثم قدمها هدية الى سفارة بلد صديق.
كان لا يزعجه وجود معارضة سياسية وبرلمانية له من طرف احزاب يسارية واشتراكية بل كان يصف المعارضة بانها ضرورية للحاكم وشبهها مثل المراة الجانبية لقائد المركبة تمكنه من معرفة ما يحصل خلفه!!
كان ملكا عربيا انيقا في فكره ومظهره ومحبا لامته العربية وفلسطين وربما كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اكثر عاصمة يرتاح ويأنس بها هي الرباط كما كان اغلب القادة الفلسطينين يعيشون هناك مثل القائد خالد الحسن والذي كان ن مغرب حديث يجمع بين الاصالة والحداثة ينفتح على الثقافات ولا يفرط بتراثه الاسلامي وهو بصفته الدينية كامير للمؤمنين كان متبحرا في الفقه الاسلامي والتراث وخصوصا الفقه المالكي السائد في المغرب بل كان في كل شهر رمضان من كل عام يستضيف نخبة من علماء الأمة الإسلامية في الدروس الحسنية ويجلس معهم على الارض يناقشهم ويحاورهم عن علم ودراية .
يذكر لي أحد مستشاريه بان صديقا له من مدينة فاس قد اخبره عن قرب وصول العلامة الكبير ناصر الدين الالباني الى المغرب بدعوة شخصية منه ويقول ذلك المستشار بانه راى من الضروري اعلام جلالة الملك بذلك وقلت له يا جلالة الملك هذا الشيخ الالباني ولغزارة علمه وخصوصا في الحديث الشريف يعتبره الكثير بانه البخاري الاخير!!
فابلغني الملك بان يجهزوا له موكبا وضيافة ملكية خاصة!!
لكن الرجل اعتذر بلطف عن ذلك وقال بانه جاء لزيارة صديق شخصي له في فاس وسوف ينام عنده في بيته!!
ويضيف المستشار وهنا وجدت نفسي في حرج شديد كيف ابرر للملك هذا الاعتذار النادر وفي النهاية اخبرته بدبلوماسية ان الرجل يشكر جلالتك على هذا اللطف الكبير ولكنه يعتذر لان زيارته تمت بترتيب شخصي مع صديق مغربي له، فاجابني الملك بسلاسة بصراحة هذا هو المسلم الصح!!
رحم الله الحسن الثاني وبارك الله في خلفه جلالة الملك محمد السادس والذي استمد طاقته من ارادة والده وجعل من المغرب بلدا تتطلع اليه الانظار باعجاب كبير.
* كاتب واكاديمي من العراق