الأخبارمقالات و تحليلات

العلم والسياسة : الجدل الراهن / د. السيد ولد أباه

د. السيد ولد أباه
أكاديمي موريتاني

في شهر مايو الماضي، أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً بعنوان «استعادة النموذج المثالي للعلم»، حدد فيه معايير يجب أن تتوفر في البحث العلمي المدعوم من الدولة، وفي مقدمة هذه المعايير: الشفافية وقابلية الانتشار والاعتراف بالأمور الظنية غير اليقينية، وغياب تعارض المصالح..الغرض من هذه التقييدات هو حسب الرئيس ترامب الحيلولة دون توظيف العلم في خلفيات سياسية أو أيديولوجية، كما هو الشأن في الأبحاث الإنسانية التي هيمنت عليها موجة «اليقظة» المرتبطة بالحركات اليسارية والجندرية الجديدة.

ومع أن العديد من علماء الطبيعيات والإنسانيات في الولايات المتحدة والغرب احتجوا على هذا الأمر التنفيذي واعتبروه تدخلاً غير مشروع في الحقل العلمي، إلا أنه في الحقيقة يتجاوب مع حركية «إصلاح البحث العلمي»، التي ظهرت قبل سنوات في الدوائر الإبستمولوجية والإبداعية على نطاق واسع. ما تؤكد عليه هذه الحركية هو ضرورة الحفاظ على موضوعية وحيادية النظريات العلمية ورفض استغلالها في البرامج السياسية والصراعات الاجتماعية.

من أبرز مفكري العلم المعاصرين الذين ساهموا في بلورة هذا التوجه الفيلسوف الأميركي لي ماكنتير (أستاذ الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم في جامعة بوسطن)، الذي عرف بأعماله المتميزة حول ظاهرة «نفي العلم» science denial التي خصص لها بعض مؤلفاته، ومن أشهرها كتاب «السلوك العلمي».

بالنسبة لماكنتير، لا يقوم الموقف العلمي على اليقين أو الموضوعية المطلقة كما ترى الأطروحة الوضعية السائدة، بل على السمة البرهانية الصارمة التي تسمح بمراجعة وتصحيح الأخطاء العلمية التي تظل احتمالاً وارداً. فما يميز العلم هو الانفتاح والخاصية النقدية وقابلية المراجعة الدائمة.

ومن هنا يجب أن لا نرى في هذه الميزات ضعفاً أو قصوراً، بل هي الدليل على حيوية العلم وخصوبته. أعداء العلم سابقاً كانوا أساساً من المتعصبين اللاهوتيين كما في بداية العصور الحديثة في أوروبا، لكنهم اليوم خليط من المتشككين في التلوث المناخي وفي التلقيح ضد الفيروسات، والخبراء الزائفين الذين يرددون أحكاماً جاهزة غير دقيقة.

هذا النقاش المتجدد حول الموضوعية العلمية وأثر النظريات والاكتشافات العلمية في المجال العمومي، له حسب رأينا جوانب أربعة تستدعي المعالجة الرصينة. أولاً: ما يتعلق بمفهوم الحقيقة العلمية، منذ تحولت الرؤية التجريبية الموضوعية إلى مقياس أوحد لليقين قابل التعميم.

لقد تبلور هذا التصور مع ديكارت نهاية القرن السادس عشر في مشروعه الشهير حول «الرياضيات الشمولية»، وما أفضى إليه من تكريس المنهج الضامن للتحقق من أفكار الذات حول الطبيعة التي تحولت معه إلى مجرد امتداد وحركة، كما أن هدف الفلسفة الوحيد أصبح «اكتشاف العلم الذي يمكّن من التحكم في الطبيعة والسيطرة عليها».

وغني عن البيان أن هذا التصور الإبستمولوجي أصبح لاحقاً القاعدة المرجعية لكل المعارف، بما فيها الدراسات الإنسانية، وإن كان في أصله صادراً عن مسلمات ميتافيزيقية لا برهان عليها كما يقول مارتن هايدغر.

ثانياً: لقد بيّنت الأزمات العميقة التي مرت بها الرياضيات والفيزياء في بدايات ومنتصف القرن العشرين، أن معيار القوانين العلمية ليس الحقيقة أو اليقين، بل الملاءمة والنجاعة وفق عبارات الفيلسوف الانجليزي كارل بوبر، وهو يعني قابلية التفنيد والإلغاء، بدلاً من الصحة والصواب.

لم يعد أحد من كبار العلماء يدّعي القدرة على اكتشاف القوانين الثابتة في الظواهر الطبيعية، بل أقصى ما يصل إليه العالم هو إبداع نماذج تحليلية لها مجال صلاحية محدود بالتجارب المخبرية المتوقفة على التطور التقني. أما الدراسات الإنسانية فهي في حقيقتها مجرد معارف تأويلية منغرسة في الاستراتيجيات الدلالية والقيمية الاجتماعية ولا يمكنها الانفكاك عنها.

ثالثاً: كان المفكر الفرنسي البارز جورج كانغلام قد ميّز بين الفكرة العلمية والأيديولوجيا العلمية التي هي استخدام نفعي وذاتي لأحكام صادرة عن النشاط العلمي، ومثالها التيارات العنصرية التي استغلت النظريات البيولوجية في تكريس النظرة التراتبية الطبقية للبشر، وبعض الاتجاهات الراهنة التي توظف التقنيات الجينية في إعادة تعريف الإنسان وتكييف قيمه المرجعية.

رابعاً: مع الثورة الرقمية الراهنة وموجة الذكاء الاصطناعي الحالية، انهارت المقاييس التقليدية لضبط الواقع والحقيقة، وفي مقدمتها العلم الذي كان منذ بداية العصور الحديثة الإطار المرجعي لنظام الحقيقة. ومن هنا بدأ الحديث عن ظاهرة «ما بعد الحقيقة»، التي يمكن استكناهها في اتجاهين متعارضين: تيار التفكيك والنقد الجذري الذي يتنكر لكل الثوابت والمحددات الكونية المشتركة، والتيار الشعبوي الذي يطرح خيار «الحقائق البديلة» ويرفض فكرة الموضوعية الأنطولوجية (أي استقلال الحقيقة عن أوجه تمثلها والتعبير عنها). خلاصة الأمر، أن الدفاع المطلوب عن العلم يجب أن يكون عن قيم الموضوعية والبرهانية والنقد، أما الأيديولوجيات العلمية فهي النقيض الحقيقي للروح العلمية.

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى