الصحافة.. وتحويل النقمة “الرقمية” إلى نعمة / ا.د. حسني محمد نصر
منذ بدأ الحديث في مطلع الألفية الحالية عن احتمالات اختفاء الصحافة الورقية بفعل المنافسة التي تتعرض لها من التلفزيون ووسائل الإعلام الرقمية الجديدة، اعتدت في بداية كل سنة جديدة أن أذهب بنفسي إلى أماكن بيع الصحف سواء كانت محطات الوقود كما هو الحال في سلطنة عُمان ودول خليجية أخرى، أو بائعي الصحف في الميادين والشوارع والأكشاك، لأتأكد من استمرار وجود هذه الصحف، وأنها لم تختف بعد من الوجود.
حمدا لله.. ما زالت الصحف والمجلات الورقية في مطلع العام 2023 تزين مداخل محطات الوقود، وما زال هناك كما أخبرني البائع من يأتي يوميا ليحمل نسخته اليومية من الصحيفة. هناك أمل إذن في أن تمتد حياة الصحف الورقية لفترة قد تطول أو تقصر، ولكن على الأقل فإنها سوف تبقى خلال هذا العام.. عام اكتمال التعافي الاقتصادي والمالي بإذن الله.
في بداية كل عام أشعر بالتفاؤل تجاه مستقبل الصحافة طالما أن هناك صحفا ورقية ما زالت تصدر في مختلف دول العالم رغم كل الصعوبات التي تواجهها صناعة الصحافة، ويكفي أن نشير هنا إلى أن عدد قراء الصحف الورقية في العالم يبلغ نحو 1.7 مليار قارئ، وهو رقم ما زال كبيرا حتى وإن قارناه بعدد قراء الصحف الإلكترونية الذي يصل إلى نحو 2.5 مليار شخص قارئ، كما أن عدد النسخ الورقية من الصحف الموزعة يصل إلى أكثر من نصف مليار نسخة. وتشير التوقعات في هذا المجال، وفقا لموقع “ستاتستا”، إلى أن إيرادات قطاع الصحف والمجلات المطبوعة سوف يصل إلى 126.50 مليار دولار في عام 2023، بمعدل نمو سنوي يبلغ 2.93 بالمائة، مما ينتج عنه حجم سوق متوقع قدره 112 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2027. وتتوقع “ستاتستا” أيضا أن يصل عدد القراء إلى نحو مليار و400 مليون بحلول عام 2027، بمعدل نفاذ يبلغ 21 بالمائة في عام 2023. وبالمقارنة العالمية، سوف يتم تحقيق معظم الإيرادات في الولايات المتحدة (26.55 مليار دولار أمريكي في عام 2023).
المؤشرات السابقة تبدو مطمئنة إلى حد كبير، وتؤكد أن آلاف الصحفيين ما زالوا يجوبون شوارع عواصم ومدن وقرى العالم بحثا عن الأخبار، وما زالوا يواجهون مخاطر مهنة البحث عن المتاعب لكي يوافونا بما يجري حولنا من أحداث. ما زال الصحفيون يواجهون الموت أثناء تغطية الحروب والكوارث والأوبئة، ويتعرضون للاعتقال والتعذيب سواء على أيدي الحكومات الديكتاتورية أو على أيدي من يهمهم إخماد صوت الصحافة الحرة. وما زال الصحفيون المسؤولون عن تحرير وإصدار الصحف من محررين ومديرين ورؤساء تحرير يحترقون نفسيا ووظيفيا في مكاتبهم وهم يتابعون ما يجري في العالم، ويعملون ليل نهار لإيصاله إلى القرّاء في أفضل قالب صحفي مناسب وسهل الفهم. وما زال المهندسون وعمال المطابع في دور الصحف حول العالم يحولون ليلهم إلى نهار وهم يقفون أمام مطابعهم العملاقة يستنشقون الأحبار ويحولون الأوراق البيضاء إلى صفحات ملونة نابضة بالحياة تتوزع عليها الأخبار والصور والتقارير والمقالات التي تشبع حاجات القرّاء وتعلمهم بالجديد والمفيد. كل هذا يؤكد أن مهنة الصحافة وجدت لتبقى، طالما ظلت هناك حاجة إنسانية طبيعية لمن يبحث نيابة عنا عما يقع حولنا من أحداث خارج نطاق خبراتنا الذاتية، ويخبرنا بها حتى نستطيع أن ندير حياتنا وحياة أوطاننا بشكل أفضل.
كل ما سبق لا ينفي حقيقة أن الصحف الورقية تواجه مصاعب وتحديات عديدة تحريرية وإنتاجية ومهنية في ظل التراجع الكبير الذي شهدته في السنوات الأخيرة على صعيد عائدات التوزيع والإعلان بسبب المنافسة الشرسة سواء من منصات الإعلام الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي، أو من بعض وسائل الإعلام التقليدية العملاقة مثل التلفزيون الذي تنوعت قنواته وشبكاته الإخبارية والترفيهية في السنوات الأخيرة، ليضاعف من معاناة الصحافة. وقد بلغت المصاعب التي تواجهها الصحف الورقية ذروتها في العامين الأخيرين اللذين شهدا أزمة جائحة كورونا التي أصابت صناعة الصحافة في مقتل، وأدت إلى تردي أوضاعها المالية، وخفض الأجور، وتسريح الصحفيين، وإغلاق المزيد من الصحف أو تحولها للإصدار الرقمي فقط.
وتشير الإحصاءات الخاصة بالصحف الأمريكية إلى أن أكثر من 300 صحيفة أمريكية أغلقت في عام 2020 وحده. وانخفض عدد الصحفيين في غرف الأخبار في الصحف بنسبة 50 بالمائة، وفقد ما لا يقل عن ستة آلاف صحفي وظائفهم منذ تفشي الوباء، كما انخفض عدد الصحف اليومية المطبوعة بنحو 28 بالمائة ليصل إلى 1260 صحيفة، وتراجع توزيع الصحف إلى أدنى مستوياته منذ عام 1940. ومع ذلك فإن التوزيع اليومي للصحف يصل إلى نحو 28.6 مليون في أيام الأسبوع، و31 مليونا يوم الأحد. وهذا ما يؤكد أن سوق الصحف الورقية ما زال قائما، حتى في ظل توفير نفس الصحف للنسخ الرقمية للمشتركين.
قاعدة التحديات التي تواجهها الصحافة الورقية لا تستثني أحدا بما في ذلك الدول التي كانت معروفة تاريخيا بارتفاع توزيع الصحف الورقية بها، مثل اليابان، إذ شهدت الأعوام الثلاثة الأخيرة انخفاضا في توزيع الصحف اليابانية بواقع مليوني نسخة، ليصل إلى 33 مليون نسخة يوميا، بعد أن كان 35 مليونا في عام 2019، وبعد أن كانت صحيفة واحدة فيها هي “يوميري شمبيون” توزع 10.3 مليون نسخة يوميا.
ما حدث للصحف الورقية في الولايات المتحدة واليابان حدث أيضا في كل دول العالم تقريبا، ومنها الدول العربية التي رغم استمرار الصحف الورقية فيها فإنها تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة دفعت بعضها إلى التوقف عن الصدور ودفعت البعض الآخر إلى خفض عدد الصفحات وتسريح أعداد من صحافييها وإلغاء خدمات صحفية أساسية حتى تستمر في التواجد في السوق. ويمكن القول إنه باستثناء الصحف الحكومية أو تلك التي تتلقى دعما حكوميا سخيا، قد لا تستطيع أية صحيفة ورقية عربية الوقوف ضد التيار ومقاومة رياح التغيير الشديدة التي تهب عليها من كل مكان. وعلى هذا الأساس فإن على الصحف أن تبدأ دون تأخير في تبني حلولا جديدة توصل إليها آخرون، وتتماشى مع الثورة الرقمية من جانب، ومع الواقع الجديد لصناعة الصحافة من جانب آخر.
لقد تمكنت الصحف في دول عديدة تحويل نقمة الثورة الرقمية إلى نعمة من خلال إصدار نسخ رقمية، فتحت فيها الاشتراك الذي يتيح للقارئ إمكانية الجمع بينها وبين النسخة الورقية. لا حاجة -إذن- لإغلاق المزيد من الصحف العربية، ولا حاجة للتضحية بالثروة البشرية من الصحفيين الذين استغرق تأهيلهم سنوات طويلة، ولا حاجة لغلق أبواب الأمل أمام أجيال جديدة من الصحفيين الشباب القادرين على مواكبة الثورة الرقمية والقيام بواجبهم في خدمة أوطانهم من خلال الصحافة. لن نكون في حاجة إلى كل ذلك إذا أحسنا التعامل مع أزمة الصحافة، من خلال إصدار نسخ رقمية فائقة الجودة وتفاعلية من النسخة الورقية، يكون وصول القرّاء لها من خلال اشتراك أسبوعي أو شهري أو سنوي بمبالغ زهيدة، يتيح لهم الحصول على النسختين معا، وهو ما قد يعيد المعلنين إلى الصحف الورقية ويؤمن استمرارها. علينا أن نستفيد من تجارب الآخرين، ونجرب أساليب أخرى للتعامل مع أزمة الصحافة الورقية دون أن نضحي بها، ولنجعل “الكي هو آخر الداء”، كما يقول المثل العربي.