بعوضة تتناول العشاء / بقلم : أحمد المسلماني

كاتب مصري-
قالت لي ابنتي إنجي: اترك هذه البعوضة يا أبي، إنها جائعة وتريد تناول العشاء. لماذا تطردها؟ ولماذا تحاول أن تقتلها؟.. لا تفعل ذلك، هذا خطأ. كنت مع أسرتي في مكان قريب من الماء، وظهر بعض البعوض ثم سرعان ما اقترب منّا.
ولمّا حاولت إبعاد واحدة منهن، انتبهت صغيرتي ذات السنوات الستّ لما أفعل، ونبهتني إلى أنها بعوضة جائعة، وأنها تريد أن تأكل بعضاً من طعامنا، فلماذا لا نتركها تتناول العشاء. لقد أذهلتني تلك البراءة، وجعلت أفكر في غداء وعشاء البعوض والذباب وغيره من عالم الحشرات اللامتناهي، ثم عالم الحيوان هو الآخر. فإذا ما كان الإنسان بكل وعيه وعلمه وإمكاناته لا يستطيع توفير الطعام لثمانية مليار إنسان، كيف تدبر كل هذه الكائنات أمورها، وكيف تأكل، ومن أين تطعم صغارها؟. يا إلهي.. يا له من كوكب يكتظ بأعداد لا نهائية من الكائنات الحية التي تحتاج للطعام، كيف تُدار الحياة غير البشرية على هذا الكوكب.. إنه عالم عجيب.. فطعامنا هو جرائم قتل لكائنات أخرى، من دجاج وأبقار وأسماك وغيرها. وطعام السّباع جرائم قتل لحيوانات أخرى، وطعام الأسماك جرائم متتالية يقتل فيها الأكبر الأصغر ليعيش. وبالنسبة لي في الموقف الذي ذكرت.. فإن استمتاعي بالجلوس على مقعدي يتطلب قتل كل ذبابة وكل بعوضة تقترب منّي، حتى لو لم يمتد أذاها إليّ.
لقد رحت أقرأ قليلاً في طعام البعوض الذي دافعت عنه طفلتنا. يا إلهي.. إنه لشيء مذهل.. فبعض الدراسات تشير إلى أن عدد أنواع الكائنات.. وليس عدد الكائنات الحية.. قد يصل إلى (1) تريليون نوع، إذا ما تم تضمين العدد أنواع الكائنات الميكروبية! في عام 2011 رصدت دراسة كندية نحو (9) ملايين نوع بيولوجي، وقالت إن (90%) من أنواع الكائنات لم تكتشف بعد. ولكن شبكة إحصاء الحياة البرية التي تضم قرابة ثلاثة آلاف عالم في (80) دولة تذهب إلى أن عدد أنواع الكائنات قد يصل إلى (3.2) تريليون نوعاً! إن البعوضة التي أبعدتها عن وجهي جعلتني أفكر في أعداد البعوض الذي زاد قليلاً قبل أن نغادر المكان، ثم سألت نفسي: يا ترى.. كم بعوضة في هذا الفندق؟ وكم بعوضة في هذه المدينة؟ وهل يوجد إحصاء بأعداء الحشرات عموماً، كم حشرة في هذا العالم الذي نبذل في بيوتنا وأماكن وجودنا أقل الجهد لإبادتها ومنع وجودها وتدمير أسباب حياتها؟
بالطبع فإنني لم أتوقع أن يفكر أحد في الإجابة عن هذا السؤال العبثي: كم حشرة تعيش في هذا العالم؟.. لكن المثير أنني وجدت إجابات بالفعل. فحسب عدد من الدراسات تم وصف (1) مليون نوع من الحشرات في عالمنا منها (400000) نوع من الخنافس، و(20) ألف نوع من الفراشات، وذلك يمثّل نسبةً قليلةً للغاية من كل الأنواع. وتقدّر بعض المصادر أن في العالم (10) كوينتليون حشرة على قيد الحياة في أي وقت، بما يعادل (200) مليون حشرة لكل إنسان. إن رقم (10) كوينتليون يعني (10) ملايين تريليون، أي واحد زائد تسعة عشر صفراً..! ثمة دراسات أخرى تشير إلى أن نصيب كل فرد في العالم يصل إلى (1.4) مليار حشرة.
أذكر أنني في سنوات سابقة، وحين سمعت للمرة الأولى أغنية الفنانة وردة «عدّ أوراق الشجر».. قلت في نفسي: هل يمكن عدّ أوراق الشجر حقاً. ولما رأيت فيلماً سينمائياً رائعاً يروي قصة إنسان أصابه أحد السحرة فجعل عُمره يرتبط بأوراق شجرة في منزله، فكلما سقطت ورقة انتهى يوم من عمره، وعند سقوط آخر ورقة سيكون الموت. ولقد صور الفيلم ببراعة حالة الذعر التي انتابته كلما سقطت كمية كبيرة من الأوراق. ولقد جعلني ذلك الفيلم أفكر من جديد.. هل يمكن حقاً عدّ أوراق الشجر؟
وكانت المفاجأة أنني وجدتُ بالفعل من قام بذلك العمل الفريد، وهو عمل لم يقتصر على عدّ أوراق شجرة ما، بل تقدير أعداد الشجر وأعداد الأوراق فوق الشجر! في دراسة بهذا الصدد جرى تقدير عدد الأشجار في العالم بنحو (3) تريليونات شجرة، متوسط أوراق كل شجرة (200) ألف ورقة بإجمالي (600) ألف تريليون ورقة شجر في العالم!
كم هو مثير ذلك الكوكب، وكم هو عظيم ملكوت الله، إذْ لا يمثل عالمنا بأكمله سوى جناح البعوضة التي قمتُ بإبعادها قبل تناول العشاء. وكم هو رائع أن يقوم المرء بين الفترة والأخرى بتجاوز ذاته ووظيفته ومحيطه، وأن يرى نفسه على حقيقتها، وبالحجم الطبيعي، الذي هو في الواقع.. اللاحجم أو اللاشيء!
المصدر : الكاتب + جريدة الاتحاد الاماراتية