الاستغراب والاستشراق.. نهاية الطريق الدائري / أحمد المسلماني

حين ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية كان الغرب نسياً منسياً، كانت أخبار الشرق الإسلامي هي أخبار العالم الأساسية، ولم يكن هناك ما هو جدير بالذكر في حياة الغرب. لكن العرب والمسلمين رأوْا أنه من الضروري معرفة العالم غير الإسلامي المجاور لهم، فشرعوا يدرسون أوروبا بتكويناتها المختلفة، وتسمّى هذه الحقبة بـ «الاستغراب» حين كان الشرق يحاول دراسة وفهم الغرب. ثم جاءت نقاط التماس في أوروبا بين المسلمين والأوروبيين، سواء في إسبانيا عبر دولة الأندلس، أو في البلقان وشرق أوروبا عبْر العثمانيين.. ثم عبْر الحروب الصليبية بحملاتها الثماني الرئيسية من 1096 إلى 1291.. وكانت هذه الحقب تعجّ بالمستشرقين والمستغربين معاً.. المسلمون الذين يحاولون فهم الغرب، والأوروبيون الذين يحاولون فهم الشرق.. وكلاهما يسعى عبر الاستشراق والاستغراب لدراسة الآخر من أجل هزيمته.
ثم كان صعود أوروبا وتراجع الشرق العربي الإسلامي، وجاء العصر الحديث بالحروب الاستعمارية البغيضة التي شنّها الغرب على الشرق، فقتل ودمّرَ، وسرق ونهب.. وبنى صناعته وتجارته على أطلال ثقافات وحياة الآخرين. ثم جاءت اليقظة العربية الإسلامية، والتي قادتها مصر في عهد محمد علي باشا، وهي اليقظة التي بدأت بمحاولة شيخ الأزهر الإمام حسن العطار فهم الغرب عبر دراسته الحملة الفرنسية، وصولاً إلى حسن حنفي ونخبة من مثقفي الشرق الذين قادوا موجة استغراب جديدة.
وفي عام 1979، وبعدما وصل الخميني إلى السلطة في إيران، ووصلت مارجريت تاتشر في بريطانيا، وغزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان.. بدأت موجة أخرى من الاستشراق قادها المحافظون الأميركيون في عهد رونالد ريجان والمحافظون البريطانيون في عهد تاتشر، ولمعت أسماء مثل برنارد لويس وغيره ممن درسوا الإسلام والمسلمين، ثم جعلوا منهم عدواً، ثم حرضوا على دولهم وأنظمتهم وحضاراتهم. كانت موجة الاستشراق هذه ضعيفة فكرياً، ولا يمكن مقارنتها معرفياً بالموجات السابقة، وكان فيها كثير من الكراهية وقليل من العلم.. حتى أن برنارد لويس جرى الترويج له باعتباره ضليعاً في اللغات الشرقية وعلى رأسها الفارسية، لكنه لا يعرف الفارسية نهائياً، رغم مزاعمه في كل مناسبة بإتقانه لها! إن هذه الموجة الساذجة من الاستشراق، والتي تواكبت مع دعم الغرب للحركات المتطرفة، قد أسست لظاهرة الإسلاموفوبيا، أي كراهية الإسلام والمسلمين. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة اعتبرت يوم 15 مارس من كل عام يوماً لمناهضة الإسلاموفوبيا، إلا أن جرائم الكراهية ضد المسلمين تتزايد كل يوم. زعم برنارد لويس، الذي اشتُهر بخرائطه لتقسيم الشرق الأوسط، أن العالم الإسلامي تعامل باحتقار مع الغرب في زمن العصور الوسطى، وأن أفضل طريقة للتعامل مع العرب هي ضربهم بعصا غليظة بين أعينهم!
في كتابه «الغرب اللاتيني كما رآه العرب المسلمون» ينفي المؤرخ «دانييل كوينج» ما ذهب إليه برنارد لويس بشأن احتقار العرب لأوروبا في العصور الوسطى. صدر كتاب «كوينج» الذي يعمل أستاذاً لكرسي الدراسات العابرة للثقافات بجامعة هايدلبرج الألمانية عام 2015، وصدرت ترجمته في القاهرة في خمسمائة صفحة. استعرض المؤرخ المتخصص في العصور الوسطى الأوروبية كتابات العرب والمسلمين من أوروبا عبر ألف عام، وقال إن نظرة الاحتقار كانت محدودة للغاية، وإن أغلب الكتابات كانت تقبل بالآخر عرقياً ودينياً، وكانت تحترم الحياة الأوروبية. ويستشهد المؤلف بالآية الكريمة «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» ليقول إنها أساس رؤية المسلمين للعالم، وقال: «إن الآية وصفٌ معجز لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الشعوب». للأسف الشديد، فإن هذا الكتاب يُعد استثناءً في موجة الاستشراق السطحية والعدائية التي انطلقت في أعقاب أحداث 1979، أو أنها مهّدت لها وساعدت في وقائعها. وقد استخدمت هذه الموجة أحداث 11 سبتمبر 2001، وحروب أفغانستان والعراق وقضايا الهجرة للوصول إلى هدفها الأكبر المتمثل في تحريض الغرب الأطلسي على الشرق الإسلامي. وبينما يُدار الصراع مع روسيا والصين وحتى كوريا الشمالية بنوع من التقدير والاحترام، فإن عنوان النظرة للعالم العربي والإسلامي تحمل مزيجاً من الإهانة والازدراء.
لقد حان الوقت لهذا الطريق الدائري من الاستغراب والاستشراق أن يصل إلى منتهاه. لم يعد هناك ما يمكن اكتشافه هنا أو هناك. لا أحد في العالم الإسلامي يريد تدمير الغرب سوى ما تلوكه ألسنة عملاء الغرب من متطرفي العالم الإسلامي، لكن في الغرب من يريد تدمير الشرق الإسلامي مهووس بأحداث من الماضي، أو عبْر تحريضٍ من أكاديميين مغرضين، ومثقفين مجرمين. لا أحد في العالم الإسلامي يهدد حضارة الغرب، وكلّ ما يريدونه هو احترام حضارتهم، والحوار بين الثقافات. لا يمكن لأيٍّ من الحضارتيْن أن تقضي على الأخرى، ومهما بلغ ضعف العرب والمسلمين، فإن إنهاءهم حضارياً هو أمر مستحيل، لم ولن يحدث الآن ولا في أيّ مستقبل.. قريباً كان أم بعيداً.
لا يمثِّل العرب والمسلمون عنوان العداء للغرب، بل يمثل الجفاف وتدهور البيئة، وعجز الكوكب عن الإيفاء بمعدلات التنمية، وكذلك تمثل أزمات الطاقة والمياه والصحة والتعليم وحروب التجارة وعولمة العنف والإرهاب.. عناوينَ للعداء لعالمٍ بأكمله.
لا حاجة للاستشراق أو الاستغراب، فالشرق والغرب كلاهما في كوكبٍ يقف عند حافة الهاوية. قد يدفع غرور القوة دول الغرب لاستمرار استهداف العالم العربي والإسلامي، وقد يربح الغرب مزيداً من الجولات، ولكن الضربة القاضية لن يفوز بها أحد، فقد ينتهي هذا الكوكب قبل أن يقضي الغرب على الشرق. لا حلّ سوى السلام، ولا طريق سوى التنمية، وأمّا أوهام القضاء على العرب والمسلمين فهي مقدمات للقضاء على الحضارة المعاصرة بأكملها. لنعمل على إيقاف المفكرين الحمقى، ولنقضي على أطروحات الدمّ البراقة.. لن يُنهي هذا العالم سوى هلاوس السيطرة عليه!
المصدر : الكاتب + الاتحاد الاماراتية