أسبوع في بنغازي الليبية … تلك المليحة بالخمار “الأخضر” / كتب : رئيس التحرير : محمد عبد الرحمن المجتبى
عبرت "نهر الريبكون" بصمت... وتجاوزت سؤال الاستقرار لسؤال التنمية والاعمار

عبرت “نهر الريبكون” بصمت… وتجاوزت سؤال الاستقرار لسؤال التنمية والاعمار
ما ذا قلت ؟ إلى أين تسير ؟، ما ذا تريد هناك ؟انتبه لنفسك..!!
تلكم بعض الأسئلة التي لا حقتني لدرجة الإحراج والازعاج من كل مشفق أو صديق علم مني أو من غيري بسفري إلى مدينة بنغازي الليبية في مهمة عمل مهنية ، ومتى كانت المهام الصحفية حصرية على المناطق الآمنة أو الوجهات السياحية الملائمة للتمتع والاسترخاء؟

طبعا أتفهم جيدا قلق المشفقين بالنظر إلى ما آلت إليه الأمور في بلدنا الشقيق ليبيا بعيد ثورة فبراير2011م التي أنهت أربعة عقود من حكم نظام العقيد معمر القذافي ، وما ترتب عليها من فوضى عارمة و سيطرة للمليشيات والجماعات الإرهابية ووكلاء الدول والمنظمات ذات الاطماع في الثروات الليبية الهائلة ،
لكننا في هذه المهنة – التي كان يطلق عليها سابقا “مهنة المتاعب اللذيذة” -، قد نجد أنفسنا مضطرين للتغطية من جبهات القتال ويجب أن نكون على استعداد لذلك ، بيد أن ما يجهله الكثيرون أن الوضع الأمني ليبيا عموما وفي المنطقة الشرقية تحديدا أصبح مستتبا بعد دحر المليشيات الإرهابية التي سيطرت على بنغازي وما حولها من المدن الكبرى
وما تشهده بعض المناطق الليبية حاليا مجرد عرض مؤقت للعضلات السياسية بلبوس مسلح تقتضيه لحظة من لحظات الربح والخسارة ضمن حسابات السيطرة وتأكيد الوجود في المشهد السياسي لا أكثر ولا أقل.
هنا بنغازي ..شرطة بالزي الأبيض … وآثار الحرب على الإرهاب !!
الساعة العاشرة صباحا تحط بنا الطائرة في مطار بنغازي (بنينا الدولي) الذي يبدو أنه يخضع لعملية تطوير وتحديث ضخمة ستحوله لواحد من أكبر وأجمل المطارات في المنطقة
خلال دقائق أنهينا الإجراءات وخرجنا من ممر أو بوابة خاصة ولم ألاحظ تدقيقا أمنيا في جوازات وهويات القادمين ، طرح الأمر أكثر من سؤال فضولي بداخلي ، طبعا الأمر بالنسبة لنا كفريق إعلامي طبيعي بحكم أن جهة الاستضافة هي التي سهلت عبورنا السريع ، لكن بالنسبة للاخرين وطريقة تكدسهم أمام بوابابات ختم الدخول كان الأمر ملفتا ، لكن عند مغادرتنا لبنغازي في رحلة العودة فهمت أن أسئلتي الفضولية لم تكن في محلها حيث كانت محطات التدقيق الأمني في جوازات ومهمات المغادرين متعددة وبطيئة وصارمة ، لكنها تتم بمهنية دقيقة وأخلاق رفيعة.
من أول المشاهد الأمنية الملفتة ونحن عند أول تقاطع طرق قرب المطار في بنغازي لاحظت رجال الشرطة يلبسون الزي الأبيض ومن بعيد خلتهم أطباء ، استفسرت من مرافقي فأخبرني أنها الشرطة الليبية في الصيف تلبس اللون الأبيض، لملائمته لأشعة الشمس، وفيه رسالة سلام وتسامح ، قلت هذا جيد ويدل على أن الأمن مستتب في بنغازي ، ضحك مرافقي إبراهيم وقال لي بلغة لطيفة لكنها حازمة خلال زيارتك ستذهب للكثير من المناطق المتباعدة وستذهب الى درنة على بعد 300كلم ولن تشاهد أي مشهد أمني على الطريق العام ، أبديت إعجابي بكلامه ، وإن كنت إعتبرته لا يخلو من مبالغة فكيف بدولة خرجت لتوها من بين فكي الحركات الإرهابية المسلحة ، وما زالت المليشيات في بعض مناطقها تذكر بوجودها من حين لآخر ، أن لا تكون شوارعها ومناطقها الحساسة مفعمة بالحواجز الأمنية ونقاط التفتيش والآليات العسكرية بشتى أنواعها وغيرها من آليات الردع الاستباقي للجماعات الظلامية التي لا ترحم في عملياتها الدموية
بنغازي تلك الورشة الكبرى
على بعد كيلومترات معدودة من المطار كانت هناك بناية كبيرة تبدو عليها أثار القصف، سئلت رفيقي ما هذا قال هذه مضروبة في زمن الحرب على الإرهاب ،
أخذت منا المسافة بين المطار والفندق ما يقارب ساعة من الزمن لم ألاحظ على طول الطريق أي مشهد أمني باستثناء حراسات طبيعية أمام بعض المباني الأمنية والحكومية الحساسة ، لكنني بالمقابل لاحظت أن بنغازي عبارة عن ورشة كبرى ،وتأكد الأمر أكثر خلال جولاتنا داخل المدينة، فلا تكاد تشاهد عمارة ضخمة في طور الانشاء إلا وتشاهد على الطرف الآخر عمارة أضخم منها ذات ملمح عمراني بديع ، وهنا وهناك تشاهد مشروعا تنمويا عملاقا أو مدينة سكنية حديثة أو مدينة رياضية عالمية أو جسرا حديثا مرتبطا بجسور أخرى ، أو جامعة كبرى أو مستشفى تخصصيا ضخما ، ناهيك عن الأسواق الحديثة المكتظة بالمستوقين والمنتزهات والساحات العمومية الخضراء، إلى غير ذلك من المظاهر الحضارية المبهرة ، تلكم حقا كانت هي المفاجئة
هذه بنغازي الخارجة لتوها من حرب داحس والغبراء مع التنظيمات الإرهابية، ذات “التوكيل” الإقليمي والدولي، تعبر “نهر الريبكون”، فجأة وبصمت تام، وتتجاوز عتبة ضبط الأمن والاستقرار لمرحلة الأعمار والتطوير، وفق أحدث تقنيات تصاميم المدن الحديثة.
صحيح أنني لم أتوقع أن أشاهد احتكاكات أمنية أو تواجدا ملحوظا للجماعات الإرهابية ،لاطلاعي على جهود القوات المسلحة الليبية في تطهير الشرق الليبي من تلك الحركات الهدامة، لكنني أيضا لم أتوقع أن تكون هذه المنطقة التي تمثل ما يقارب 70بالمائة من التراب الليبي تجاوزت سؤال الأمن والإستقرار، لتشرع بقوة وبوتيرة متسارعة في تجسيد مقتضيات سؤال التنمية ، بل سؤال العصرنة والتطوير والازدهار.
يتجلى ذلك في عشرات المنشآت الحديثة أو التي يجري تحديثها كتلك المعلمة أو التحفة المعمارية المتمثلة في جامعة بنغازي ، وهي الجامعة العريقة التي تروي قصة عدة عهود ليبية من عهد مؤسسها الملك السنوي لعهد المشير خليفة حفتر الذي حررها من سيطرة الحركات الإرهابية التي حولتها إلى ثكانت ومخازن لتخزين السلاح و ما تزال شواهد بشاعة تلك الجماعات ماثلة ترويها جدرانها ومبانيها المدمرة ، تماما كما ترويها بعض بنايات مشروع خمسة آلاف وحدة سكنية الذي انطلق وتعثر في عهد نظام العقيد القذافي، لينطلق من جديد وفق أحدث وأروع التصمايم العالمية
صندوق إعمار ليبيا و العقول الليبية !!!
ما يميز مشاريع الإعمار التي يباشرها صندوق إعمار ليبيا بقيادة المهندس بلقاسم خليفة حفتر هو الحضور القوي والجلي للعقول الليبية من مهندسين وخبراء ومسيريين ، ومما يغري في عملية الاعمار هذه هو موائمتها الرائعة بين الحداثة والرقي والتطوير مع لمسة بيئية بهية تجسدها الحدائق والمنتزهات التي حولت مدينة بنغازي الى مدينة بهية خضراء أو على الأصح إلى “مليحة بالخمار الأخضر” ، وهذا ما يجعل هذه المدينة التي تنتفض من تحت الركام بصمت ستسجل حضورها القوي والمتميز ضمن أحدث المدن العربية وربما العالمية إذا تواصلت وتيرة الإعمار هذه بهذا النفس والتوجه والدقة والصرامة.
خلال زيارتنا الميدانية للمشاريع الانشائية الكبرى نلاحظ أن الجميع يتحدثون عن تعليمات المهندس الذي يبدو أنه يطلع على تفاصيل التفاصيل ويعطي رأيه بأدقها ، فهذا المهندس يحاسب الشركات على أبسط تقصير أو تسويف أما التأخير ولو ليوم واحد فلا مجال له في عقيدة مهندس الاعمار الليبي بلقاسم حفتر
أحد نبهاء المهندسين الليبين كان يحدثني عن سرعة وتيرة العمل، خلال زيارتنا لأحد المشاريع العملاقة، وقال لي أن المشروع سينتهي خلال 18شهرا فقط ، قلت له ذلك غير ممكن هذا مشروع عملاق، قال لي العمل لا يتوقف أبدا ، قلت له طيب إذن العمال يعملون على مدار الساعة عندكم؟ قال نعم، لكنه بعد هنيهة ضحك وقال لي لا تورطنا مع حقوق الانسان نحن نعمل بالنظام الثلاثي أي كل ثمان ساعات يكون هناك فريق عمل وبالتالي لا يتوقف العمل ، والمهندس ( بلقاسم) يقوم بزيارات ميدانية مبرمجة وغير مبرمجة لجميع المشاريع سواء في بنغازي أو درنة أو أي مشروع تابع لصندوق إعمار ليبيا ولا يتسامح مع أي تقصير أو تأخير
ولأننا في مجموعة الصدى للاعلام قد نشرنا مؤخرا تحقيقا استقصائيا مصورا عن مدينة “درنة من الاعصار الى الاعمار” لست بحاجة للكلام عن معجزة انتشال هذه المدينة بعد الاعصار المدمر حيث تحولت إلى مدينة عصرية راقية وزاهية.
المجتمع الليبي يستعيد ثقته
خلال جولاتنا في بنغازي ودرنة والتي ساقتنا أحيانا للأسواق المنتزهات لا حظنا أن الشعب الليبي يستعيد يقينه ويتحدث لك السكان بحركة عن سنوات النار والدمار وما عاثته الحركات الظلامية من بطش وقهر ، لكن تقرأ في العيون ثقة في الحاضر ويقينا بالمستقبل ، وطبعا الوضع الاجتماعي جيد جدا خاصة إذا علمنا أن الكثير من الخدمات الاجتماعية مجانية في ليبيا كالدراسة والدواء وحتى الغذاء بأسعار مخفضة جدا ، و عشرات المدن السكنية التي تشيد وفق أحد التصاميم العمرانية سيتم تجهيزها وتسليمها مجانا للمواطنين الليبين ، والحياة الاقتصادية بدأت تنتعش والأسواق الحديثة الراقية وأغلبها أسواق عوائل (للأسر فقط) نظرا لمحافظة الشعب الليبي المعروفة ، والأسعار في المتناول ولن يصدق القارئ الكريم أن سعر مائة (100) لتر من البنزين في ليبيا لا يتجاوز 15دينارا ليبيا أي دولاريين آمريكين فقط لا غير، ذلك ما اكتشفه زميلي المصور محمد شريف بفضوله الصحفي وتأكد من دقته من أحدى محطات توزيع المحروقات؟
وختاما نسدي تحية خاصة وشكرا مستحقا لصندوق إعمار ليبيا الذي أتاح لنا فرصة زيارة بلد حبيب على قلوب كل الموريتانيين، حيث شاهدت وعاينت مشروع دولة ليبية حديثة ينمو ويتشكل بتخطيط محكم وبوتيرة قوية و متسارعة.
وتحية خاصة للرفيقين الظريفين الأستاذ وليد والاخ إبراهيم ، فقد كانا يتحليان بأخلاق عالية وتواضع جم وصبر مستميت على إصرارنا على التصوير في أوقات محددة يفترض أن نتسريح فيها أو نتحرك لمنطقة ما رغم التعب لكنها كانت مهمة ممتعة بمافيها من تعب وسهر ومشقة كل ذلك يمضي وتبقى الذكرى الجميلة والعمل المنجز يروي الحكاية
وطبعا لا بد من تحية حارة لملح الرحلة ومشاغبها الذي وضع مصورنا الشاب الخلوق محمد على الصامت لمدة 24ساعة وكاد يفعلها بغيره أنه الزميل الليبي مسعود الواعر