الأخبارمقالات و تحليلات

لا بد من صنعاء ، وحديث شيق مع البردوني / كتب ا.د كريم فرمان 

ا.د كريم فرمان / كاتب عراقي اكاديمي واستاذ القانون والنظم السياسية في جامعة الأخوين.افران المغرب.

المصدر : الكاتب /

في صنعاء التي ترتفع عن سطح البحر وبلا بحر ارتفاعا شاهقا يجعل طقسها جميل ومعتدل طوال العام تعيش وكانك في متحف التاريخ والناس هم من صنعوا هذه الامجاد ،تلتفت شمالا قصر غمدان ويمينا قصرا الخورنق والسدير وعلى هذه الهضبة ومنها كتب تاريخ اجدادنا العرب حتى قيل في الامثال ليس بعربي من ليس له جد في اليمن!

في عام 1992م حينما كنت مقيما في صنعاء واستاذا في جامعتها حملتني شخصية عراقية رفيعة امانة عبارة عن هدية خاصة بان اوصلها الى شاعر اليمن وصنهاجتها عبدالله البردوني، وفي دارته بصنعاء اخبرته زوجته الرائعة والمهذبة عن الزائر و غاية الزيارة فرحب بي كثيرا وسأل اكثر عن حال العراق التي يحبها كثيرا ثم طلب منها ان تحضر لنا نوع من البن اليمني الشهير تدعى قهوة القشر تمتاز بانها فعلا لذيذة المذاق وابتدات معه الحديث بسؤاله من القائل لا بد من صنعاء وان طال السفر ؟
اجابني بان هذه المقولة الشهيرة يبدو انها اشتهرت قبل الاسلام لان صنعاء التي ينسب تاسيسها الى سام ابن نوح ولكن المتواتر والمعروف ان قائلها الإمام احمد بن حنبل في مكة المكرمة عندما عزم السفر إلى اليمن لملاقاة عالم اليمن حينذاك عبد الرزاق الصنعاني وقال لا بد من صنعاء وان طال السفر.
كذلك نسبت ايضا الى الامام الشافعي لما اراد السفر إلى اليمن للقاء العالم إسحق بن إبراهيم الدبري الذي يقطن في قرية من نواحي سنحان قرب صنعاء تسمى هجرة دبر!
فقال (لا بد من صنعاء وأن طال السفر، واقصد القاضي الى هجرة دبر ).
وكذلك وردت في قصيدة لشاعر اليمن د. عبد العزيز المقالح( يوما تغنى في منافينا القدر،لا بد من صنعاء وان طال السفر،، لا بد منها حبنا ،اشواقها،، تذوي حوالينا الى اين المفر ).
وعندما سالته بلطف من أشعر انت ام المقالح؟
اجاب انا اشجع منه!! لأني كفيف البصر وسافرت بالطائرة الى بغداد وهو لم يغادر صنعاء سوى مرة واحدة الى القاهرة ورجع في الباخرة مبحرا الى الحديدة خوفا من ركوب الطائرة، وضحكنا معا وهو يشير الى ان الشاعر الكبير المقالح يخاف ركوب الطائرة لذلك اعتذر عن تلبية عشرات الدعوات الخارجية وهذا صحيح لمسته بشكل مباشر فقد كان مديرا لجامعة صنعاء ولم يبرحها حتى وفاته.
روت لي زوجة البردوني السيدة الفاضلة فتحيه الجرافي وهي اديبة ومثقفة قامت على خدمته حتى وفاته وفد تزوجها عام 1976 بعد وفاة زوجته الاولى فاطمة الحمامي عام ،1975 م روت لي طرفة قوية جدا بان عبدالله ليس شاعرا فحسب انما خبيرا في السيارات !! فتقول مرة ارسل اليه الرئيس علي عبدالله صالح هدية عبارة عن سيارة صالون نوع كريسيدا صغيرة فخرج وتلمسها بيديه وقال لمن اتى بها من القصر الجمهوري ارجعها للرئيس هذه ليست الهام شاهين!!!
يريد ان يحتج على الرئيس بان السيارة هذه ليست من نوع صالون لاند كروزر المرتفعة حيث يسمون هذا النوع من السيارات في اليمن على أسماء الممثلات ( الهام شاهين. ونوع اخر يطلقون عليه ليلى علوي واخر مونيكا ).
حقيقة ان الرجل يتمتع بذكاء شديد وذاكرة مدهشة يستطيع ان يرسم لك الاشياء والاحداث وكانها لوحة مرسومة بتفاصيلها كما لاحظت انه متابع لكل جوانب الحياة وحركة الشعر والسياسة .
(( سعاد الصباح مهرة الخليج الى الشعر العربي))

سالته ماذا يقول عن الجواهري الشاعر العراقي قال هذا البحتري المعاصر وعن الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد وصفه بالمتنبي الاخير!
وعن نزار قباني اشاح عني بوجهه ثم تحدث بصراحة يا اخي هذا شاعر مهرجانات واقرب الى ناظم كلمات تدغدغ مشاعر جمهور اغلبه من النساء.
وسالته عن الشاعرات العربيات من هي التي تعجبك منهن؟ فصمت قليلا واجابت زوجته عنه انه يحب أن يستمع كثيرا الى الشاعرة الكويتية سعاد الصباح ويحتفظ باشرطة كاسيت لبعض قصائدها واشعارها الجميلة ثم وصفها ،
هذه شاعرة عربية صاحبة قضية وهي مهرة الشعر العربي واميرته!!
لا تصدق ان الذي تجلس معه هو من انشد قصائد مثل ،(حبيب وافيت من صنعاء يحملني، جنح وخلف ضلوعي يلهث العرب) او توصيفه لصنعاء بانها ،مليحة عاشقاها السل والجرب!او يمانيون في المنفى منفيون في اليمن،شماليون في صنعاء جنوبيون في عدن!!
ودعته بمحبة وقبلت راسه وقال لي ارجوك سلم لي على من ارسل الهدية وعلى بغداد والنهرين وعلى ابن الجهم صاحب قصيدة عيون المها بين الرصافة والجسر!!ا
ثم تناول منديلا ليمسح دموعه شوقا واسى على بغداد!

البردوني الذي دعي إلى العراق مطلع سبعينات القرن المنصرم للمشاركة في مهرجان ابي تمام في مدينة الموصل

تثاءب بعض الحضور في قاعة المهرجان، وأوشك آخرون على مغادرتها!
لمّا قام شاعر يمني كفيف
بشعره الأجعد
وآثار الجدري تكسو وجهه
وسار بهدوء
وهو يمسك بالرجل الذي يقوده
وصعد إلى المنبر
وهو يمسح أنفَه بِكُمِّ معطفِه
مما أثار بعضاً من اللغط والدهشة في القاعة التي كانت تغصُّ بجمهور حسَّاس محب للشعر
– تنحنحَ عبدالله البردوني ثم
بدأ يقرأ قصيدته بعنوان :
أبو تمام وعروبة اليوم
والتي يعارض بها قصيدة الشاعر العباسي حبيب بن أوس الشهير بأبي تمام التي يقول في مطلعها:

السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
فألقى البردوني قصيدته بصوت أخَّاذ جميل وبأداء تستحقه تلك القصيدة الجميلة فقال :
ما أصدقَ السيف إنْ لم ينْضِهِ الكذِبُ
وأكذبَ السيف إن لم يصدق الغضبُ
وأدهشت المفاجأة الجميع !
ووقف الحاضرون إعجاباً وفي القوم فطاحل الشعراء أمثال:
نزار قباني
والبياتي
وغيرهم
إذ لم يكن من المتوقع أنَّ رجلاً كفيفا بمثل تلك الهيئة يمكن أن يُفاجئ القاعة بمثل هذه الأبيات!!!!
وسجل #البردوني إبداعه بأحرف من نور وهو يخاطب أبا تمام بقوله:

حبيب وافيتٌ من صنعاء يحملني نسرٌ
وخلف ضلوعي يلهثٌ العرب
وتصاعد البردوني في إلقائه حتى شدَّ الحاضرين
من أدباء وشعراء ،
وجمهور على مستوى عال من الاستجابة إلى قصيدته وهو يقول :
تسعون ألفاً لعمّورية اتَّقَدوا
وللمنجم قالوا : إننا الشُّهُبُ
قيل انتظارِ قطافِ الكرم ما انتظروا
نُضْجَ العناقيد لكنْ قبلَها التهبوا
واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا
نضجاً وقد نضجَ الزيتونُ والعِنَبُ
ماذا أحدِّثُ عن صنعاء يا أبتي؟
مليحةٌ عاشقاها السِّلُّ والجرَبُ
ماتتْ بصندوقِ وضَّاحٍ بلا ثمنٍ
ولم يمُتْ في حشاها العشقُ والطرَبُ
وعندما نزل من على المنبر ظل التصفيق يتوالى ثم التفَّ حوله العشرات في القاعة وفي صالة فندق الإدارة المحلية، وظل يستقبل العشرات من المعجبين وهم يُشيدون بقصيدته لأنه كان بحق نجمَ المهرجان.
رحم الله البردوني إنساناً وشاعراً .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى