بأبي أنت وأمي يا رسول الله : بقلم المفكر السعودي الراحل د. محمد عبده يماني
اللهم اجز سيدنا رسول الله عنا خير الجزاء، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته انك لاتخلف الميعاد.. واننا نشهد ياسيدي يا رسول الله بأنك قد بلغت الرسالة، واديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في سبيل الله حق جهاده حتى اتاك اليقين، ونشهد بما شهد لك الله به من فوق سبع سموات: بأنك على خلق عظيم، وانك بالمؤمنين رؤوف رحيم، ونقف والأيام تمر بنا عطرة معطرة تذكرنا بك، وبفضلك وبخلقك، ودعوتك وأمانتك، ونستمع الى أمر الله عز وجل وهو يأمرنا بطاعتك واتباعك والسير على هديك، ونستمع الى النداء الرباني: {واطيعوا الله واطيعوا الرسول لعلكم ترحمون}، ثم يعلمنا بأن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعته عز وجل، وتأتي الآية مصرحة: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}، بل إنه عز وجل جعل له تلك المكانة العظمى فجعل محبته عز وجل تبدأ باتباعه، وتتحقق في السير على هداه، وجاءت الآية مصرحة معلنة واضحة، قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله”.
ومن هنا فإننا كل ما طافت بنا الذكريات العطرة، ومرت بنا المناسبات الكريمة ووقفنا نسترجع جوانب من السيرة النبوية الطاهرة، نحس بالرغبة في أن ندرس هذه السيرة النبوية بعمق، ونتتبع المواقف النبوية الشريفة ونتعلم منك يا رسول الله ، كيف وقفت في غار حراء تتحنث وتتعبد وتسأل الله سبحانه وتعالى من فضله، ثم كيف أكرمك الله بنزول الوحي، وصبرت وتحملت وكنت أمينا على العهد، صادقا ودعوت إلى الله على بصيرة، واليوم نسترجع وندرس جوانب من تلك الأيام الخالدة، فنقف لنذكر نسبك الشريف الطاهر، وآباءك الكرام، منذ آدم إلى نوح، ومنذ اسماعيل إلى أن ولدت بمكة وأنت تعتز بأنك خيار من خيار، وإنه ليس في آبائك أحد ولد من سفاح، وأن والديك قد التقيا على نكاح ولم يلتقيا على سفاح، وقد نقلك الله من الأصلاب الطاهرة الزكية إلى الأرحام الكريمة المرضية، وقد إختار لك الله أن تولد في البلد الأمين، عند بيته المحرم، في مكة المكرمة، ويشهد لك الكل بأنك أمين مؤتمن كريم مكرم، يحتكمون اليك، ويشهدون لك بالخيرية والأمانة حتى قبل ان يعلموا أنك رسول كريم، وخاتم النبيين والمرسلين.
ولهذا نقف اليوم ياسيدي عند هذه الذكرى العطرة التي تمر بنا، ذكرى يوم مولدك الكريم لنسترجع جوانب مما جاء ذكره في هذا اليوم الذي اضاء الدنيا بكاملها وجعله الله يوما تطل فيه على الدنيا فتكون اطلالة رحمة على العالمين.
وسبحان الله كيف خصك بأخذ الميثاق من النبيين حتى يصدقوك وينصروك ويقروا بذلك (وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم، لتؤمنن به، ولتنصرنه، قال أأقررتم، وأخذتم على ذلكم إصري، قالوا أقررنا قال فاشهدوا، وأنا معكم من الشاهدين)، قال ابن عباس، رضي الله عنهما: “ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً، وهو حي، ليؤمنن به، ولينصرنه، فانظر إلى هذه العظمة، التي لا تعدلها عظمة أحد من الخلق، وهذه المكانة التي لا مكانة فوقها لأحد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك فإن عيسى عليه السلام، إذا نزل فإنما يحكم بكاتبنا، ويعمل بشريعتنا، بل سيبلغ منه الأدب مع سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه أن يصلي خلف إمامنا (المهدي) ولا يتقدم عليه، كما جاء في الحديث الشريف الثابت “كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم” متفق عليه.ولم يعرف لرسول من الرسل أن أمر الله تعالى عباده بغض الصوت عنده إلا سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه، (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي. ولا تجهروا له بالقول. كجهر بعضكم لبعض)، وجعل تعالى غض الصوت عنده، صلوات الله وسلامه عليه، علامة التقوى: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى)، كما جعل رفع الصوت عنده سبباً لإحباط الأعمال (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض. أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)، بل حذر الذين يخالفون عن أمره صلى الله عليه وسلم ( أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )، كما جاء في سورة النور فجعل أمره صلى الله عليه وسلم من أمر الله كما جعل طاعته هي عين طاعته (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، كما جعل مبايعته هي عين مبايعته (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله).ولم يعرف لرسول من الرسل نهى الله أمته أن تخاطبه باسمه، إلا سيد ولد آدم فقال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً)، قال ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير وغيرهم: “كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فنهاهم الله ـ عز وجلـ عن ذلك إعظاماً لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمرهم أن يقولوا يا نبي الله، يا رسول الله”.وكانت الأمم تخاطب أنبياءها بأسمائهم كما أخبر الله تعالى، كقوله: ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)، (يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا)، (يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك)، (قالوا يا موسى ادع لنا ربك).بل وما كان ربه ـ عز وجل ـ يخاطبه باسمه وإنما كان يخاطبه بالنبوة والرسالة تعظيماً له: فقال تعالى (يا آيها النبي اتق الله..)، (يا آيها النبي حسبك الله)، (يا آيها النبي إذا طلقتكم النساء )، وقال تعالى: ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)، (يا آيها الرسول بلغ ما أنزل إليك).وخاطب الأنبياء جميعاً بأسمائهم فقال تعالى: (يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة )، (يا موسى إني اصطفيتك على الناس)، (يا نوح اهبط بسلام منا)، (يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا)، (يا يحيى خذ الكتاب)، (يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك)، (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض).وما وصلنا أن نبياً من الأنبياء تولى الله سبحانه وتعالى المجادلة عنه، عندما يتهمه قومه غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما قال قومه عنه إنه كاهن، قال الله تعالى: (ولا بقول كاهن)، ولما قالوا: شاعر قال تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له)، ولما قالوا: ضال قال تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى)، ولما قالوا: مجنون قال الله تعالى: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون)، ولما قالوا: “إنما أنت مفتر” قال تعالى: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون).بينما كان الأنبياء من قبله، هم الذين يجادلون أممهم ويدافعون عن أنفسهم.. فأي حب اعظم من هذا الحب، وأي تقدير يعادل هذا التقدير؟؟ فلما قال قوم نوح لنوح: (إنا لنراك في ضلال مبين)، قال نوح دفاعاً عن نفسه: (يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين).وقال تعالى عن هود ـ عليه وعلى نبينا السلام ـ (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين. قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين).وقال فرعون لموسى: (إني لأظنك يا موسى مسحوراً)، قال موسى:(وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً).وما قرع سمعنا أن الله سبحانه وتعالى أقسم بحياة أحد، لا بحياة نبي مرسل ولا ملك مقرب، ولم يقسم إلا بحياة سيد الخلق ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنبيهاً على علو مقامه: لأن القسم إنما يقع بالمعظم، قال تعالى: (لعمرك).قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: (ما خلق الله خلقاً أحب إليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله عز وجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) وحياتك إنهم لفي سكرتهم يعمهون.وأي منة أجل من أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر دون أن يذكر له ذنباً، قال تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً).بينما أشار الله سبحانه وتعالى إلى أحوال الأنبياء قبله ثم ذكر التوبة عليهم: فقال تعالى في حق آدم: (وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى)، وقال في شأن موسى: (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون) وقال: (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم).وقال سبحانه عن داود: (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب. فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب).وعن سليمان قال سبحانه: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب. قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب. فسخرنا له الريح).وما علمنا أن نبياً من الأنبياء عرج به إلى السماء، ليتلقى من ربه كلمات ثم يعود بها إلى الأرض إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، أما عيسى عليه وعلى نبينا السلام قد رفع إلى السماء، وسينزل إلى الأرض، إلا أنه لا ينزل بشرع جديد، فلا يسعه إلا اتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.ولئن كانت الريح قد سخرت لسليمان ـ عليه وعلى نبينا السلام ـ غدوها شهر ورواحها شهر، فصفوة الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد عرج به مسيرة خمسين ألف سنة.. إلى سدرة المنتهى، فما كذب فؤاده.. وما زاغ بصره. “أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة”.وقال صلى الله عليه وسلم “بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب وبينما أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي”.وقال صلى الله عليه وسلم: “ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة”.بأبي أنت وأمي، يا سيدي يا رسول الله، يا سيد ولد آدم، يا صفوة الله من خلقه، وواسطة العقد من رسله، يا أكرم الأكرمين على الله.. وأرفع المعظمين منزلة عند الله.حقاً.. لقد شرح الله لك صدرك، ووضع عنك وزرك، ورفع لك ذكرك، وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً.وفي الختام فاننا نتلو قول ربنا عز وجل: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).. ونقول: لبيك اللهم ربنا وسعديك، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد في الأولين، وصل وسلم على سيدنا محمد في الآخرين وصل وسلم على سيدنا محمد في كل وقت وحين، وصل وسلم على سيدنا محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، وأحينا اللهم على سنته، وأمتنا على ملته، واجعلنا من رفقائه، واكتبنا اللهم عندك في خيار المصلين والمسلمين عليه، آمين.. آمين.. آمين.
وتبدأ المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن الإتباع والسير على هداه، والعض على سنته بالنواجذ، وهذه أيام عطرة تمر بنا لذكرى يوم من الأيام الخالدة في حياة الأمة الاسلامية.. إنه يوم من أياموو الله.. إنه اليوم الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول في الثاني عشر منه وفي يوم الإثنين على أغلب الأقوال، وهي ذكرى تستوجب الوقوف عندها وتذكرها وشكر الله سبحانه وتعالى عليها. فنحن عندما نتتبع جوانب السيرة العطرة لهذا النبي الكريم والرسول العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم إنما نعمق محبتنا له صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن محبة هذا النبي الكريم والرسول العظيم قضية مهمة في حياتنا، بل إنها الأمر الذي يكمل به الإيمان، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا عمر، ومن خلاله علم الدنيا بأن كمال الإيمان يكون بكمال المحبة وصدقها، وحتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى الإنسان من ماله ونفسه التي بين جنبيه:” فمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ميزان الإيمان..فمن أراد أن يختبر إيمانه فليسأل نفسه: ما مقدار محبته لسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم..
هل يحبه المحبة الكاملة والخالصة..
وهل يحبه أكثر من ماله
وأكثر من ولده..
بل وأكثر من نفسه التي بين جنبيه..
عندها يشعر الإنسان المؤمن بالراحة ويطمئن لتمام إيمانه..
ويحمد الله عز وجل الذي أكرمنا بهذه النعمة..
وخصنا بخير الأنام..
فبعث لنا أشرف خلقه.. وأكرمهم عنده..
سيد المرسلين.. الصادق الهادي الأمين..
قائد الغر المحجلين.. وبالمؤمنين رؤوف رحيم..
وهو النبي الكريم.. والرسول الأمين..
خاتم الأنبياء والمرسلين..
فهو خير الورى منهجا.. وأصوبهم نطقا..
وهو أصدق عبد.. بالحق صدع وأعرب..
(وهو أكرم داع الى الحق.. المصطفى الصادق المصدق)..
وهو الذي أمتن الله به علينا فقال:
(لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم).انه رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة..بلغ الرسالة. وأدى الأمانة.. ونصح الأمة.. وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين وكان صلى الله عليه وسلم لايقول الا صدقا..
ولا يفعل إلا معروفا..خلقه سهل.. مع هيبة قوية.. وطبيعة رحيمة..وهو الرحمة المهداة إلى هذه الأمة..(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)..فالحمد لله رب العالمين على هذه النعمة العظيمة..يقول صلى الله عليه وسلم: “ثلاث من كن فيه فقد وجد بهن حلاوة الإيمان:أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار”ويقول صلى الله عليه وسلم:” ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا.. وبالإسلام دينا.. وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا “”
” ولكي نتذوق محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجعله الأسوة.. لا بد من معرفة حياته.. وسيرته صلى الله عليه وسلم.. لأنها: المثال الواقعي.. والحقيقي لكل مسلم.. وقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم “القرآن”.. وهو الذي تمثل في شخصه القرآن.. كما جاء من عند الله عز وجل.. وكما أراد الله سبحانه وتعالى.. ومن أحب القرآن فلا بد أن يحب سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن القرآن كما أسلفنا هو خلقه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.. كما أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة عظيمة ونعمة كبيرة.. وفضل كبير من المولى العلي القدير. ومن هنا جاءت أهمية عنايتنا بهذه السيرة العطرة لهذا الرسول الكريم الذي ولد في أشرف بيت من بيوت العرب.. وأرفع نسب من أنسابهم وأعظم قبيلة من قبائلهم.. وأعلاها مكانة وقدراً: ” روى العباس رضي الله عنه.. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم.. من خير فرقهم.. وخير الفريقين.. ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم.. فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً”
وإننا عندما نستعرض السيرة فاننا ندرك بأن: “السيرة النبوية دون شك أتم وأشمل بل وأكمل سيرة دونت على مر التاريخ، وجاءت من فضل الله على نحو من الصحة والثبوت فى السند والرواية لا تشبهها أية سيرة أخرى.وقد إهتم بها المسلمون تدوينا وتدقيقا واهتموا بتداولها، وأخذوا يحتفون بها قراءة وتبصرا وبحثا واستيعابا، لكى تكون نبراسا يضئ أمامهم الطريق.. وفعلوا ذلك بسيرة آل بيته الطيبين الطاهرين وخلفائه الراشدين وصحابته الكرام البررة والتابعين لهم بإحسان الى يوم الدين.
وقد فعلوا ويفعلون ذلك لأنها كما ذكرنا السيرة الكاملة والشاملة مدون فيها كل شئ عن حياته صلى الله عليه وسلم بكل أطوارها وتفاصيلها، منذ زواج أبيه عبد الله بن عبد المطلب بأمه آمنه بنت وهب بل من قبل ذلك أيضا ومن يوم مولده الى حين وفاته صلى الله عليه وسلم أيضا.
وهكذا جاءت السيرة النبوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة كل الوضوح فى جميع المراحل، صحيحة كل الصحة.وإن الميزة من صحة السيرة النبوية أنها لا يتطرق إليها شك، ولم يدخلها تحريف، وهذه الميزة لا توجد فى سيرة رسول من رسل الله السابقين، فموسى عليه السلام قد اختلطت عندنا وقائع سيرته الصحيحة بما أدخل عليها اليهود من زيف وتحريف، ولا نستطيع أن نركن إلى التوراة الحاضرة لنستخرج منها سيرة صادقة لموسى (عليه السلام)، فقد أخذ كثير من النقاد الغربيين يشكون فى بعض أسفارها وبعضهم يجزم بأن بعض أسفارها لم يكتب فى حياة موسى (عليه السلام) ولا بعده بزمن قريب، وإنما كتب بعد زمن بعيد من غير أن يعرف كاتبها وهذا وحده كاف للتشكيك فى صحة سيرة موسى (عليه السلام) كما وردت فى التوراة، ولذلك ليس أمام المسلم أن يؤمن بشئ من صحة سيرة سيدنا موسى عليه السلام إلا ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
ومثل ذلك يقال في سيرة عيسى (عليه السلام) فهذه الأناجيل المعترف بها رسميا لدى الكنائس المسيحية، إنما أقرت في عهد متأخر عن السيد المسيح بمئات السنين، وقد اختيرت بدون مسوغ علمي من بين مئات الأناجيل التى كأنت متداولة فى أيدى المسيحين يومئذ.. ثم إن نسبة هذه الأناجيل لكاتبيها لاتثبت عن طريق علمى تطمئن النفس إليه فهى لم ترو بسند متصل إلى كاتبيها.. على أن الخلاف قد وقع أيضا بين النقاد الغربيين في أسماء بعض هؤلاء.. ومن يكونون؟ وفي أي عصر كانوا ..والذين طالعوا كتب السيرة النبوية يعرفون تماما دقة مصادر السيرة النبوية واستيعابها لكل ما نسب إليه.
فقد اشتملت على كل شئ عن حياته صلى الله عليه وسلم وتضمنت كل ما عزي إليه أو قيل في حقه من حق أو باطل، ومن صدق أو كذب وكل ذلك معلوم بالتفصيل، وواضح أمره للناقدين، بحيث يستطيع المتتبع لهذه السيرة أن يطلع على صورة كاملة واضحة بجميع جوانبها وتفاصيلها.. حتى الأحاديث التى نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.. حفظت، سواء منها الصحيح أو الضعيف، ونقي عنها كل حديث مكذوب عليه صلى الله عليه وسلم.. وكل شئ موثق.. مدقق فى سنده.. وروايته.. ورجاله، وقد يخطر ببال سائل أن يسأل: ما بال المحدثين حفظوا الأحاديث الموضوعة، وسجلوا الضعيفة، ولماذا لم يكتفوا بالصحيح ويطرحوا ماسواه؟؟ فالجواب: أن المحدثين الكرام لم يجدوا غضاضة في حفظ هذه الأحاديث بمختلف أسانيدها ودرجاتها حتى لا يأتى من يقدح في هذه الأحاديث ويدعي أن المسلمين قد أخفوا بعض الأحاديث لأنها ضعيفة أو مكذوبة.. خشية على رسولهم فاستبعدوا ما فيه غمز أو لمز أو ضعيف أو كذب، كما يطعن الطاعنون في هذه الأيام على الأخبار المسيحية لأجل ذلك.
أما المحدثون الكرام، فقد جمعوا كل ما له علاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم صحيحا كان أو باطلا، وجعلوا لنقده قواعد، وأصلوا لتحقيقه أصولا يرجع إليها في تمييز الصحيح من السقيم، والغث من السمين، وجاءت الأصول والقواعد على نحو من الدقة.. والفحص.. بحيث يطمئن إليها قلب المؤمن وتخرس السنة الحاقدين والحاسدين والطاعنين.
وما من حياة أحد ـ مهما بلغت من الصحة التاريخية وثبوت الرواية ـ يصح أن يكون منها للناس أسوة تتبع ومثال يقتدى به إلا إذا كأنت معلومة للناس بجميع أطوارها، ومتجلية لهم بدقائقها وتفاصيلها من كل مناحيها، وحياة محمد صلى الله عليه وسلم من ميلاده إلى ساعة وفاته معلومة للذين عاصروه وشهدوا عهده وقد حفظها التاريخ عنهم لمن يعدهم..
إن جميع شئونه وأطوار حياته ـ من ولادته ورضاعته وطفولته إلى أن صار يافعا وشابا، ,الى أن اكتملت رجولته، كل ذلك ظاهر أمره، معلومة تفاصيله.وقد علم التاريخ عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم اشتغاله بالتجارة، وقصة زواجه، وعلم الناس سجاياه في صداقته، وفي وفائه للناس قبل النبوة، وصلاتهم به، ,اعترافهم بأمأنته وصدقه حتي اتخذوه أمينا، وأقاموه حكما حين اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في موضعة من الكعبة، ثم وقفوا علي أمره حين حبب الله إليه الخلوة، فاعتزلهم في غار حراء، ثم علموا حاله حين نزل عليه الوحي من رب العالمين، وحين بدأ أمر الإسلام يظهر للوجود، فأخذ يدعو الناس إليه ويبلغ ما أنزل اليه.
وقد رأى التاريخ كيف خالفوه وعاندوه! وهل غاب عن التاريخ ما لقي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نشر الإسلام من جهد وعناء؟ وما قابله أهل الطائف حين سار إليهم ينهاهم عن عبادة الأوثان، ويأمرهم بعبادة الرحمن؟ وهل نسي التاريخ حين أخبر أهل مكة ـ وهم أقلية قليلة من المسلمين وأكثرية ساحقة من المشركين ـ بخبر العروج إلي السماء؟؟ثم.. هل خفي على التاريخ أمر هجرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومع من هاجر؟ والغزوات التي غزاها؟؟ والأسباب الباعثة عليها؟؟ وموقفه من الهدنة إذا هادن؟ وعهدوه إذا عاهد؟؟ وما صلح الحديبية بسر.والذين طالعوا كتب السيرة النبوية يعلمون ما ذكرنا، وما لم نذكر، وقد وقفوا على كتبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك، والأقيال، والولاة، يدعوهم فيها إلى دين الله، دين الإسلام والوئام.. وعرفوا جهاده في سبيل الحق وما بذله في تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس، إلى أن أكمل الله للإنسانية دينها، وحج ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجة الوداع، وما صاحبها من هديه وتعليمه وأعماله وخطبه حتى توفاه الله إليه.فهل في شئ من ذلك ما يجهله التاريخ؟؟ وهل فيما يتعلق بهذا الرسول الأعظم ورسالته ما أسدل عليه ستار من خفاء؟؟
عن كل تفاصيل حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حفظت، بما في ذلك حياته في بيته، وفي قيامه الليل بين يدي ربه عز وجل، وفي مباشرته لأزواجه، وتربيته لهن على حب الله، وايثار الآخرة على الدنيا، ثم في تفاصيل حياته ومعاملاته مع الناس مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، ومع المحب والمبغض، ومع الضعيف والقوي، ومع المتابع والمعارض، وهيئته في ضحكه وابتسامه، وعبادته في ليله ونهاره.. ثم كيف كان يأكل؟؟ وكيف يشرب؟ وماذا يلبس؟ وماذا كان يحب من الألوان ومن الطيب؟؟ إلي غير ذلك من تفاصيل الطهارة والغسل وخدمة الأهل في المنزل.. حتى جسده الطاهر الشريف وصفوه وصفا كاملا كأنك تراه.”
وختاما فما أجمل أن نسترجع بين وقت وآخر جوانب من هذه السيرة العطرة، نتعلمها ونعلمها لأولادنا، لأنه صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة عليه أفضل الصلاة والتسليم.
المصدر : موقع الدكتور محمد عبده يماني