الشيخ اليعقوبي رجل العلم والدعوة والتصوف/ بقلم الشيخ باي المجتبى

الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي هو أحد علماء الشام الذين جمعوا بين علو الكعب في العلوم الشرعية ؛ والرسوخ في التربية والتزكية؛ سمعت به منذ فترة عن طريق بعض مريديه ، كما اطلعت له على بعض المؤلفات والقصائد في المديح النبوي، قبل أن تتاح لي فرصة زيارته في بيته بالرباط والسمر معه ؛ لأنشد فيه بعد رأي العين :
كانت محادثة الركبان تخبرنا
عن أحمد فلاح أحسن الخبر
ثم التقينا فلا والله ما سمعت
أذني بأطيب مما قد رأى بصري
وجدت الشيخ أبا الهدى يغرف من بحر علم زاخر ؛ وينهل من فيض رباني عذب ؛ ويسقي من عين حكمة نبوية لم تُشب ..ولم يكن بدْعا من قومه في ذلك فهي وراثة علمية تربوية متسلسلة؛ هو وآباؤه فيها كمُسَدَّدٌ بْنُ مُسَرْهد، بْنِ مُسَرْبَل ، ولا غرو إن كان بيت الشرف الحسني كذلك .. فقد تعلم وأخذ عن والده الشيخ إبراهيم اليعقوبي الذي كان إمام المالكية في الشام في زمنه وهو آخر من درَّس مختصر الشيخ خليل في الشام – رد الله لتلك البقاع أمنها وعلمها – شأنه في ذلك شأن والده الشيخ القطب اسماعيل اليعقوبي. فهم أسرة علمية وبيت للتربية كابرا عن كابر..وقد درَّس الشيخ ابو الهدى نفسه مختصر خليل في الشام إلا أن ذلك لم يكن لفترة طويلة كما اتفق للوالد . كما اشتهروا بمعرفة الكيمياء والبراعة فيها من ذلك ما رواه لي الشيخ عن والده الشيخ ابراهيم أنه في مبتدأ سلوكه على والده الشيخ اسماعيل دعاه ذات مرة وأمره بالاشتغال بالكيمياء ووصف له خلطة لبعض النباتات والاعشاب ولم يزل يخلط فيها ويحرق ويزيد وينقص تحت إشراف والده وحسب توجيهه وأمره حتى حصل على مادة الإكسير .! ومعروف إن الإكسير إن صب على المعادن بشرائط مخصوصة يصيرها ذهبا. ومن هنا قيل النية إكسير العمل ؛ لأنها تحول العادات إلى طاعات وعبادات ..
استغرقت عملية التكوين هذه ستة أشهر من أخذ النبتة الأولية إلى الحصول على الإكسير ؛ كان الوالد الطالب يومئذ حديث السن في حدود عامه العشرين ؛ ولنا أن نتصور ابن العشرين بيديه هذه المادة التي تقلب المعادن ذهبا وفي بئة لا يتمكن غالب أهلها – بما فيهم بيت الشيخ المعلم – من الحصول على الخبز يوميا ، بعد تأكد الشيخ من إتمام التعليم وإحكام الولد لصنعة الكيمياء جاء وقت الاختبار ؛ فدخل الولد وبيده الإكسير فقال له الوالد الشيخ اسماعيل : ارقه في المجاري..! توقف الولد مذهولا مندهشا ؛ وقال : يا والدي نضيع هذا الجهد ونحن نحتاج ؟! فرد الوالد بصرامة المربي الواثق بالله الطالب لما عنده : يا بني أتريد العلم أم المال ؟ فأجاب الولد على فطرته التي تربى عليها : أريد العلم . قال : العلم لنا والمال لغيرنا ، إذا اسكب هذا في المجاري.. فسكبها وقضي الأمر.
وقد عرف بالبيت بمعرفة الكيمياء وعدم استخدامها في الأمور الدنيوية ؛ لدى أهل الشام حتى صاروا يقولون إن كيماء اليعقوبيين كيمياء تصريف لا تأليف.
في هذا البيت العلمي الصوفي ولد ونشأ الشيخ ابو الهدى وتعلم وانخرط في سلك السادة الشاذلية..
فحصل على حظ وافر من العلم في سن مبكرة حيث ألف كتابه ( حسن الفهم في مسألة القضاء بالعلم ) في الثانية والعشرين من عمره ؛ وهو كتاب يبحث فيه مسألة هل يجوز للقاضي أن يحكم في نازلة بالاعتماد على علمه الحاصل له خارج مجلس القضاء دون البينات والشهود .
ثم توالت تآليفه بعد ذلك في شتى الفنون ومنها كتاب ( شمائل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ) وهو كتاب بديع في جمعه وترتيبه وتجريده ، ومنها ديوان ( مغاني رُبَى الأسماء ) جمع فيه ألفين وستمائة اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقد استوعب من ذلك ما حصله العلماء الذين منهم مَن أفرد الأسماء بالتأليف ؛ كاللغوي ابن فارس من المتقدمين المتوفَّى 395 هجرية في كتابه ( المُنبي في تفسير أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ) وكابن دحية من المتاخرين المتوفَّى 633 هجرية في كتابه ( المستوفَى في أسماء المصطفى صلى الله عليه وسلم ) وكالسيوطي في كتبه الثلاثة ( البهجة و الرياض الأنيقة و المرقاة العلية ) ؛ ومنهم من أفردها نظما كالسخاوي والغَزِّي وكالنبهاني الذي نظم فيها ونثر .. ومنهم من تعرض للأسماء الشريفة في كتب السيرة كالصالحي في سبل الهدى والرشاد وكعياض في الشفاء …
ومما نبهني عليه الشيخ أبو الهدى من المسائل الفقهية تحقيق ما شاع لدى بعض المالكية في هذا العصر من حلية الربا بين المسلم والحربي تقليدا للأحناف حيث انتشرت بذلك الفتوى وتلقفتها البنوك الإسلامية فعمت بها البلوى ؛ يقول الشيخ إن حقيقة مذهب الأحناف في المسألة أن ثمت فرقا عندهم بين الإقراض والاستقراض ؛ فالاستقراض لا يجوز عندهم بحال لأن المسلم هو دافع الربا ..
أما الإقراض فيجوز عندهم بشرط أن يكون المسلم تجر في دار الحرب وأن يتوثق من عود رأس المال إليه حتى لا تكون فيه ضيعة مال . فحينئذ يجوز له ان يقرض الكافر الدرهم بدرهمين لأن تلك الزيادة جاءت من الكافر برضاه ؛ والأحناف يجيزون أخذ مال الحربي برضاه ولو على غير وجه شرعي .. وأنهم استدلوا بمرسلين أحدهما للنخعي والآخر لمكحول وأن في مرسل النخعي : ( لا باس بالدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين بين المسلم والحربي في دار الحرب )
وأن هذا جلي في لفظ الحديث على ما يقتضيه اللف والنشر؛ ( الدرهم بالدرهمين بين المسلم والكافر ).
وأذكر هنا أن شيخنا اباه أدام الله نعمته به كثيرا ما ينبه على خطر نقل أقوال المذاهب من غير كتبهم ؛ لأن أصحاب هذه الكتب؛ يشيرون للمذهب المخالف دون تحرير ؛ فيتوهم القارئ أن هذا مشهور ذلك المذهب ، بينما يكون قولا شاذا أو مطروحا فيه ، ويقول إن مَن أراد تقليد قول لمذهب فليأخذه من كتب ذلك المذهب التي هي محل تحريره .
وحاصل هذه المسألة أن ما شاع أخيرا من إحالات للمالكية على الأحناف في مسألة جواز الربا بين المسلم والحربي ؛ مقتضى مذهب الأحناف تقييده بأن يكون المسلم هو المُقرِض لا أن يكون مقترضا..
كما أن الشيخ أبا الهدى على اطلاع واسع بتاريخ بيوتات العلم في المشرق وخاصة في الشام ؛ وما جرى من حوادث فيها يرويه كأنه حضره ونشأ فيه ؛ وعنده وثائق ومخطوطات شواهد على ذلك ؛ مما يدل على مكانة بيته العلمية ؛ وتصدره بين بيوتات وأسر المشيخة في الشام ، رد الله لها حكمها المنهوب وعزها المسلوب.

ومن سمت العلماء الزهاد الذي لحظت في الرجل ، اعتزاله للفتن؛ وتواريه عن الأضواء ؛ – رغم اتباعه الكثر في قارات العالم أجمع – وعدم تحامله على الخصوم؛ جمعا للكلمة وطلبا للسلامة ورضاء بها من الغنيمة المغشوشة.