الأخبارمقالات و تحليلات

الاعتراف الأوروبي بفلسطين… بين الرمزية السياسية ومتطلبات الدولة الحقيقية / بقلم: الكاتب والسياسي سيد الأسيوطي

بعد الزخم الكبير الذي شهدته الصحف العالمية مؤخرًا حول اعتراف عدد من الدول الأوروبية بدولة فلسطين، يبرز سؤال جوهري يتجاوز الشعارات والاحتفالات الدبلوماسية: هل توجد أرض فعليّة يمكن أن تقوم عليها دولة فلسطينية مستقلة؟ وهل يمكن لهذا الاعتراف أن يتحول إلى واقع ملموس؟

المساحة التي يُفترض أن تشكّل الدولة الفلسطينية هي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وهي أراضٍ محتلة منذ عام 1967. لكن الواقع شديد التعقيد، فالضفة الغربية مقطعة الأوصال بفعل المستوطنات والحواجز والطرق الالتفافية، في حين يظل قطاع غزة محاصرًا ومعزولًا. ومع استمرار السيطرة الإسرائيلية على الحدود والمعابر والموارد الأساسية، تبدو الدولة الفلسطينية كخرائط على الورق أكثر منها كيانًا حيًّا متصلًا قابلًا للحياة.

الدولة لا تُبنى بالشعارات ولا بالبيانات السياسية، بل بمؤسسات قوية وبنية تحتية واقتصاد قادر على الصمود. والسلطة الفلسطينية – رغم ما تمتلكه من أجهزة إدارية وأمنية محدودة – لا تملك اليوم الموارد ولا السيطرة الفعلية على الأرض، فهي تعتمد ماليًا على عوائد تمر عبر إسرائيل، وتعتمد في حركتها على معابر تسيطر عليها إسرائيل، وتفتقد إلى سيادة حقيقية على الحدود أو المجال الجوي. أي إعلان دولة دون معالجة هذه الحقائق سيظل مجرد إطار شكلي هش قابل للانهيار عند أول اختبار.

الاعتراف الأوروبي يمثل بلا شك مكسبًا سياسيًا ومعنويًا للفلسطينيين، ويعزز شرعية المطالبة بدولة مستقلة، لكنه لا يغيّر شيئًا على الأرض إن لم يُقترن بخطوات عملية ضاغطة على إسرائيل لوقف الاستيطان، وإنهاء الاحتلال، وضمان قيام دولة قابلة للحياة. والتجارب السابقة أظهرت أن الاعترافات المنفردة لم تُسهم في تفكيك مستوطنة واحدة، ولم توقف حربًا واحدة. وإذا لم تترافق هذه الاعترافات مع خطة واضحة، ستبقى الدولة الفلسطينية مجرد عنوان في المؤتمرات واسم على جدران السفارات. والأخطر أن يتحول الحلم إلى إدارة بالشتات، حيث تُرفع الأعلام في الخارج بينما تبقى الأرض رهينة واقع الاحتلال.

الأرقام والتقارير الدولية تعكس حجم الأزمة. فقد بلغ عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية دون القدس الشرقية نحو 517,407 مستوطنين في نهاية 2023، فيما يصل العدد إلى أكثر من 770 ألفًا إذا أُضيفت القدس الشرقية، بينهم نحو 336 ألفًا في محافظة القدس وحدها. ومنذ تولي حكومة نتنياهو في أواخر 2022 ارتفع عدد المستوطنات من 128 إلى قرابة 178 مستوطنة، أي بزيادة تقترب من 40٪. كما توثق الأمم المتحدة وجود ما يقارب 793 عقبة حركة ثابتة أو مؤقتة في الضفة الغربية، بين حواجز وبوابات وإغلاقات وطرق محظورة، ما يعيق بشكل مباشر وصول الفلسطينيين إلى أعمالهم وخدماتهم الصحية والتعليمية.

أما من الناحية الاقتصادية، فقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني إلى نحو 13.7 مليار دولار عام 2024، وخسر الاقتصاد قرابة نصف مليون وظيفة بعد أكتوبر 2023، منها 200 ألف في غزة، و144 ألفًا في الضفة، و148 ألفًا لعمال الضفة الذين كانوا يعملون داخل إسرائيل. وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن معدل الفقر بلغ 32.8٪ في منتصف 2023، لكنه يقفز في غزة إلى 64٪ مقابل 12٪ فقط في الضفة الغربية. ويُتوقع أن يتواصل الانكماش الاقتصادي بين 6.5 و9.6٪ في قطاعات أساسية، بينما تواجه السلطة الفلسطينية فجوة تمويلية ضخمة تبلغ نحو 1.86 مليار دولار في 2024، وهو ما يضعف قدرتها على تقديم الخدمات العامة ويهدد بانهيار مالي مستمر.

هذه الحقائق تجعل من الضروري وضع خريطة طريق واقعية تتجاوز الخطاب الرمزي. فمن دون وقف الاستيطان وتجميده على الأقل، لا معنى لأي حديث عن دولة. ومن دون إزالة القيود والعقبات على حركة الفلسطينيين، لن يكون هناك اتصال جغرافي أو اجتماعي يمكّن الدولة من القيام بوظائفها. ومن دون برنامج اقتصادي طارئ لإعادة إعمار غزة ومعالجة البطالة والفقر، سيبقى المجتمع الفلسطيني هشًا ومعتمدًا على المساعدات. كما أن إعادة هيكلة مالية السلطة الفلسطينية لتقليل الاعتماد على إسرائيل، ودعم بناء مؤسسات قضائية وأمنية قوية وشفافة، أمور لا غنى عنها لضمان استقرار أي كيان مستقل. والأهم أن تُترجم الاعترافات الأوروبية إلى ضغوط دولية مركزّة، سياسية واقتصادية وقانونية، تُلزم إسرائيل بوقف ممارساتها وتفتح الطريق أمام قيام دولة فلسطينية حقيقية.

إن الاعتراف الأوروبي بفلسطين إنجاز يبعث الأمل، لكنه ليس كافيًا لبناء دولة إذا استمرت الديناميات الحالية من استيطان متسارع، وحواجز خانقة، وفقر متفاقم، واقتصاد على حافة الانهيار. الدولة الحقيقية تحتاج أرضًا متصلة، وسيادة فعلية على الموارد والحدود، واقتصادًا قادرًا على الصمود، ومؤسسات حكم راسخة. ولتحويل الشرعية الدبلوماسية إلى واقع ملموس، يجب أن يُترجم الاعتراف إلى خطوات عملية يشعر بها المواطن الفلسطيني على أرضه: أن يجد عملًا، أن يمر من مدينة إلى أخرى دون حاجز، أن تُبنى مدرسة ومستشفى، وأن يعيش بكرامة وأمن. دون ذلك، ستبقى الدولة الفلسطينية مجرد شعارات جميلة وظلال لا تكفي لسد جوع الأمل.

المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى