الإستقلال الثقافي(4) / السيد محمد حماه الله
انتهينا الى أن جميع الإحالات التي تجسد الهوية ينظمها التاريخ كحامل الإنشاءات الذي تقام عليه الهوية وهو من يسوي تباينات المجتمع ويصهرها في كينونة ذات متوحدة عمادها المجتمع المشكل الذي يضحى هو الذات المستوعبة لكل الذوات الفردية والإجتماعية السابقة للمجتمع وعملية الصهر تمتد تحقيبا في الزمان ما تستلزمه روابط المجتمعات المشكلة فيما بينها حتى تذوب في وعاء المجتمع هوية وانتماء
فالهوية كما أسلفنا كائن حي يتشكل وينمو ويتطور هناك مكامن قوة تحفظ بقائها ونقاط ضعف قد تؤدي الى تفككها وانحلالها وذوبانها في هويات أقوى أو أرقى أو أقوى وأرقى .
نجد بعد استعراض الثقافة كمفهوم له تحققه على أرض الواقع نمضي في اتجاه عرض أشكال مصادرة الثقافة بهزيمة الهوية وتبعيتها مما يفري عرى الثقافة وشخصية الأمة ويحيلها الى متاحف التاريخ أثرا بعد عين
الإستغلال الثقافي :
الإستغلال علاقة غير طبيعية قوامها الإختلال بين طرفي العلائقية بحيث يوظف المستغل(بالكسر) المستغل (بالفتح) في تحقيق مصالحه بمحو ذاته ومحقها فتحال العلاقة بين طرفي يكون كلاهما ند للاخر الى علائقية رأس أمرها الإمتهان يكون فيها المستغل لا خيرة له في أمره يمضي طيعا مأتمرا ميتا بين يدي غاسله
فالإستغلال هو الحيف الذي يقصى فيه طرف لمصلحة آخر والإقصاء هنا يكون للشخصية بإغتيالها وسجن حضورها واستقلالها
وفي ضربنا هذا من الإستغلال إستغلال الثقافة بمعنى الإستبداد عليها وكسر روحها بأن تتوارى لتحضر ثقافة الغالب المنتصر استلابا وانمحاقا في ثقافة الغير
والإستغلال الثقافي بهذا النحت قليل الإستخدام بل إني لا أعلم من سبقني في استخدام هذا الإصطلاح (الإستغلال الثقافي) لوسم والتعبير عن اختلال العلائق بين الثقافات بخلق نظرات غير متساوية للثقافات والحضارات تفضل بعضها على بعض تحت مبرر القوة أو الرقي
وبإمكاننا أن نجمل جوهر الإستغلال الثقافي بأنه الزعم بأن هناك ثقافة أرقى وغيرها ثقافات متخلفة منحطة (بدائية)
وإذا أردنا أن نؤرخ للمفهوم كإستغلال ثقافي نجد أن الحقل الدلالي الغربي في بدايات القرن العشرين ومع صعود تيار اليسار الماركسي الذي طرح رؤية مغايرة عما هو معهود في الغرب غرب الإمبريالية الفظة والإستعمار والإستعلاء المتدثر بالعقلانية والعلموية . نجد أن الغرب بتحديده التاريخي والثقافي بدأ يوصم التحول السياسي الكبير في روسيا الذي صنعته الثورة البلشفية والذي كانت له إنعكاساته الكبرى في السياسة والإقتصاد والإجتماع بل عملية إعادة صياغة كاملة للمجتمع ما قبل وما بعد الثورة 1917
نجد قاموس اكسفورد الذي ينطق بإسم الغرب الانجلوسكسوني الإمبريالي يعبر عن الثورة البلشفية في روسيا بما أسماه (الإمبريالية الثقافية للروس) .
وهو ما وجد رواجه لاحقا في عقدي الستينات والسبعينات من القرن المنصرم حيث كثر الإسناد والإحالة الى الإمبريالية فكثر استخدام مصطلحات مثل الإمبريالية الإعلامية، الإمبريالية البنيوية ، الإمبريالية الثقافية ، التبعية الثقافية والهيمنة ، الإستعمار الإلكتروني ، الإمبريالية الإيديولوجية ، الإمبريالية الإقتصادية …الخ
والإحالة الى الإمبريالية أو الإستعمار قد يفي بالمقصود لكن تحريا للدقة فإن وسم الإستعمار إذا جرد من تجريته التاريخية التي سجنت المصطلح في الدعاية الغربية لتبرير هجمة أوربا على شعوب أرض وسرقة قوتهم وثرواتهم وإمتهانهم فإنه وسم إيجابي غير سلبي فالإستعمار من استعمر الذي هو صيغة استفعل من الثلاثي عمر والإعمار هو خير الوجود ومراد الله من الخلق وإيجادهم على هذه الأرض يقول تعالى : ( واستعمركم فيها)
فمصطلح الإستعمار إذا حرر هو ومثيلاته في اللغات الأخرى من الحمولة التاريخية لتجربة الإستغلال الأوروبي للشعوب فإنه يحيل لمعنى إيجابي غير ما حصدته الشعوب إزاء تجربتها مع الإستعمار الأوروبي الذي هو في حقيقته استغلال واستعباد
وأيضا الإمبريالية كتعبير عن إتساع الملك على رقعة جغرافية كبيرة وشعوب متنوعة ليس في جميعه شر فكثير من الإمبراطوريات حققت الرخاء والسلام لشعوبها وصنعت حضارات عظيمة ارتقاءا بإنسانها وثقافته
لذا نجد أن المصطلح الأكثر مضاءا والتعبير الأصرح والأصدق عما عانيناه من الغرب في التجربة الإستعمارية هو الإستغلال الثقافي
الإستغلال الثقافي هو إمتهان الثقافة وإختلال علاقاتها الندية مع نظيراتها من الثقافات
فإذا كان الإستغلال في تجربة الإمبريالية الغربية هو الغزو والسيطرة بواسطة دولة (أو شركة) أكثر قوة من هنا يكون الإستغلال الثقافي هو أبعاد العملية التي تتجاوز الإستغلال السياسي والقوة العسكرية والإستغلال الإقتصادي في تاريخ الإمبريالية الغربية (شكل الإمبريالية التي تدار فيها المستعمرات مباشرة من قبل الأجانب) الى أبعاد أعمق في تكوين وبناء المجتمع المستعمر (المستغل) تهدف الى إعادة صياغته هوياتيا بحيث يكون قابعا بترسيخ هزيمته الثقافية (النفسية) وتقهقهره الحضاري وأنه لا سبيل له في صناعة حضارته أو على أقل تقدير حصوله على موطئ قدم في عالم اليوم إلا بتبعية الغرب في ذات مستعمره من كان تحت سطوة فرنسا فهو فرانكفوني ومن كان تحت سيادة التاج البريطاني فهو انجلوسكسوني ولو كان مفرق الشفاه رأسه كأنه زبيبة .
فقد سعت الدول الإستعمارية الى أن تجعل مستعمراتها نسخا منها ألم يكن في جميع مناحي الحياة لغة وعقيدة ونظم وتشريعات كما فعلت فرنسا فعلى أقل تقدير فيما يتعلق بالنظام وأسس الحكم هيكلة وتشاريع كما فعل المستعمر البريطاني . بل إننا نجد النظم التعليمية والإعلامية في جل دول العالم الثالث نماذج مكررة بصورة مشوهة من تلك الموجودة في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وتحمل قيما أيضا بصورة مشوهة وغير مستوعبة
إعلاميا نجد أن نهم الإعلانات التي أضحت هي التي توجه المستهلك ليست لترغيبه فقط بل مع السعار الإستهلاكي عاد الناس يستهلكون دون إرادة تقهرهم الإعلانات والميديا فالمعيار لم يعد الحوجة ولا الرغبة إنما التسابق المتماهي مع ما تعكسه الإعلانات بإسم الموضة
وعبر آلية الموضة لم تكف دوزنامة الإمبريالية في نسختها الناعمة من توجيه رسائل مفادها أن الثقافة الغربية هي الأرقى المتفوقة وعلى الجميع إتباعها وإتباعها فقط