مقالات و تحليلات

إعادة كتابة التاريخ.. بديلا عن بناء الواقع!/ محمد ولد المنى

محمد المنى / اعلامي موريتاني مقيم بالامارات

طالعتنا مواقع الإنترنت وصفحات الفيسبوك بخبر حول ترؤس الوزير ولد محم لجنةً في وزارته مكلفة بإعادة كتابة التاريخ الموريتاني. وفي تفاصيل الخبر أن اللجنة بصدد إنجاز موسوعة متكاملة للتاريخ الموريتاني، تتناول فترات ما قبل التاريخ، والتاريخ القديم والأوسط، ثم التاريخ الحديث والمعاصر.. وأن تشكيل هذه اللجنة يأتي استجابةً لتنفيذ تعهدات الرئيس محمد ولد عبد العزيز بإعادة كتابة تاريخ البلد خلال إحدى جولاته الداخلية عام 2015.
بيد أن موضوعاً كهذا يثير تساؤلات إشكالية عديدة تنبغي الإجابة عليها دون مواربة أو تأخير؛ فإذا كان مصطلح «إعادة كتابة التاريخ» بذاته يشير إلى أن ثمة تاريخاً مكتوباً بالفعل، فما هي المآخذ وأوجه الانتقاد لهذا التاريخ والكتابات المنجزة حوله؟ وأي جوانبه تريد اللجنة (أو بالأحرى الرئيس) الاستدراك عليها وإعادة كتابتها مجدداً؟ وهل يتعلق الأمر بالتاريخ الجيولوجي وتاريخ التحولات المناخية؟ أم بالتاريخ الديني والاجتماعي؟ أم بتاريخ الحروب القبلية الكثيرة حول المراعي والمناهل؟ أم بتاريخ العلاقات بين الأعراق والهجرات السكانية وما اكتنفها من تحول في البنية الديموغرافية؟ أم بتاريخ المرحلة الاستعمارية وما شهدته من مراوحة بين المقاومة والمهادنة؟
وإذا كان قسم من الكتابات حول تاريخ البلاد قد وضعه أجانبٌ وقسم آخر كتبه أبناءُ البلاد من أهل القلم، فإلى أيهما تنصرف التُّهمُ والمآخِذُ وتتجه الاستدراكات المطلوبة من جانب الرئيس ولجنته؟ ومَن يضمن حياد اللجنة وكفاءتها ونزاهتها في تناول التاريخ الاجتماعي والثقافي والحربي للمجتمع؟ وما علاقتها بمدوني الفيسبوك من «المؤرخين الجدد»، المعروفين بأجندتهم المؤيدة للرئيس، وبمواقفهم تجاه بعض فئات المجتمع ممن يسمونها «أحفاد آماليز» و«أحفاد كوميات»؟ وهل سيستمر عمل اللجنة في إنجاز الموسوعة بعد انصراف الرئيس من الحكم ومجيء رئيس آخر قد لا تكون له بالضرورة ذات الدوافع لإعادة كتابة التاريخ وصناعته بأثر رجعي؟
وقبل سماع أي إجابة على هذه التساؤلات المهمة، ينبغي أن نتذكر بأنه في ظل الدولة الديمقراطية ونموذجها القائم حالياً في الغرب، تلتزم السلطة الرسمية العليا بأقصى درجات الحياد حيال التباينات الفكرية والثقافية في المجتمع، وإن حتمت عليها وظائفُها التربوية والثقافية والإعلامية دوراً تعليمياً وتثقيفياً، لكن على نحو متوازن وحذِرٍ للغاية حيال محاذير التحزب الأيديولوجي والفئوي.
ورغم أن دولة الاستقلال في هذه البلاد (ولم تدّع أنها ديمقراطية تعددية على غرار النموذج الغربي)، كانت كل أولوياتها منصرفة لتثبت الاعتراف بها داخلياً وخارجياً، وكانت وسائلها البشرية والمادية محدودة للغاية، فربما أبانت عن حكمة حين تعاملت مع التاريخ بحذر شديد هي أيضاً، واقتصرت على ما يصلُح منه لبلورة الوحدة الوطنية وتوطيدها وتأكيد شرعية كيانها الجديد والناشئ (المرافعات أمام محكمة لاهاي، والمباحث المُحكمة حول مملكتي غانا وكومبي صالح ودولة المرابطين في المقررات المدرسية من مادة التاريخ والجغرافيا، إضافة إلى «رسالة توود» التاريخية الشهيرة التي بعثها الرئيس المختار إلى سينغور حول الجزيرة الحدودية). وربما تجلت حكمة قادة الاستقلال وحصافتهم في تجنب الانغماس أو التورط في مشروع من قبيل كتابة التاريخ أو إعادة كتابته، قد لا يكون أكثر من عملية نبشٍ في قبور الحساسيات الدفينة أكثر مما هو تأسيس لوحدة نخرت وتنخر في عظمها سنوات الفشل المتواصل في بناء دولة المؤسسات!
لذلك فالأقرب إلى الحكمة والأدنى إلى الصواب في وقتنا الحالي هو إعادة بناء الواقع نفسه، أي السماح بالتطور المؤسسي والتنموي، لصالح الرفع من مستوى حياة إنسان هذا البلد المطحون فقراً ومرضاً وجهلا، وتلك هي الوظيفة الأساسية للدولة.. وليس فتح جروح الماضي واستعادة تبايناته الضيقة والمتجاوزة موضوعياً، بغية صرف الأنظار عن الحاضر الماثل بكل تقاسيم فشله وبؤسه واستحقاقاته وقضاياه الملحة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى