الأخبارقضايا المجتمعمقالات و تحليلات

الفنان الذي أدخل يده في جيبه ليخرجها بيضاء بمليون دولار.. /كتب :خالد شحام

لماذا تتهافت الشعوب المفلسة على الانفاق في حفلات الفنانين؟ وماذا تقول بيروت المنكوبة للمحتفلين؟

خالد شحام
كاتب عربي فلسطيني

مع نهاية الأسبوع الماضي  أحيا الفنان عمرو دياب ليل بيروت الداكن  بلوحة بيضاء من الحضور  في حفل فني صاخب حضره أكثر من 15 ألفا من اللبنانيين مرتدين الزي الأبيض الذي كان شرطا لحضور الحفل كرمزية للسلام والأمل للبنان ، تقاضى الفنان المذكور مبلغا متواضعا مراعاة لظروف لبنان حسب وكالات الأنباء   يصل  لأكثر من 750 ألف دولار حيث بيعت التذاكر بسرعة قياسية بأسعار تتراوح بين 60-1000 دولار للتذكرة وأكثر .

في ظاهر الأمر – وخاصة في السنوات الأخيرة –  تحول هذا الموضوع ومثله كثير من القضايا المتعلقة بالجدليات الأخلاقية إلى موضوع متكرر وشبه ثابت وربما يبدو عاديا ومقبولا لدى اطياف واسعة ولا تحرج منه في بلد مثل لبنان وغيره من البلاد المنكوبة خاصة أن جرعات الفرح والسعادة مطلوبة وبشدة للإبقاء على رمق من الأمل او هكذا يظن .

 

ضمن ذهنية عالم يغرق في تبعيات ومشتقات الرأسمالية والعولمة  والمادية  والحسابات فبيروت المثخنة حصلت على رمق اقتصادي وإنعاش لحركة الجماهير في التنقل والشراء والسياحة الداخلية وحقق الفنان  دخلا لنفسه ولبلده  من خلال نتاج ( فني ) مدته ساعات قليلة وتم تسجيل هدف في مرمى الحزن والانتصار على الكآبة التي تغشى شوارع وشعب لبنان وحظي المتابعون والتابعون بلقاء تجسيدي مع (أبولو) العربي معبود الجماهير المتعطشة للطرب والسهر واستمتعوا بالقدوة الحسنة التي تتباهى بالبذخ والملابس وساعة مرصعة بالماس تبلغ قيمتها نصف مليون دولار ارتداها الفنان وهو يتمايل ويتراقص على مسرح الإغواء ، هنيئا هذه الانجازات الرائعة بجدارة حيث الكل ربحان والوقت مليان والفرحة تغمر لبنان .

في الجهة الخلفية لخشبة المسرح وحولها حيث تناثرت الافرازات والحيوانات المنوية للفرح و  وللسعادة والإثارة والأمل المدعى عليه  بالأبيض ثمة مخلفات أخرى تركها المحتفلون خلفهم غير تلك الملقاة في الشوارع من نفايات وقناني شرب الماء وفضلات الاحتفال الكثيرة والزبالة البشرية ، مخلفات لا يلقي أحد لها بالا على شكل أسئلة مصيرية وعلامات تعجب وأفكار ورؤى تكاد تنتحر من تناقض وتفكك العُرى في الحال العربي الذي يتكاثر فيه الانحطاط بأسرع مما يتوالد الامل الأبيض الذي ضحك به أبولو على ذقون الساهرين ، أسئلة كثيرة يتم استفزازها واستفزازنا معها كلما عُقِدَ حفلٌ وانطلقت احتفالية او مهرجان ما في بلاد البؤس والنكبات التي لا يوجد أي عقد شرعي يزاوج بين نكباتها وحفلاتها المصنوعة من سكرٍ شديد المرارة  ، أسئلة حرجة مربوطة بجسدها ساعة توقيت ورزمة ديناميت موقوته على ضمير الأمة ولحظة الصحو التي لم تحضر ، أسئلة من مثل : كيف يمكن لشعب لبنان المكسور الخاطر وشعوب أخرى مثله والذي سرقت أمواله وحياته أن ينفق كل هذا المال على حدث عبثي لا يمكنه ان يساعد اقتصاد البلاد أو يشفي الجراح  ؟ كيف يمكن لجرعات الطرب والحفلات والمشاهير أن تخفف المعاناة العربية بكل أبعادها وأصنافها ؟ كيف يمكن أن يتحول الطرب إلى إبرة مورفين في ذروة الآلام لإلهاء الشعوب و الضحك على ذقونها  من خلال ساعات فرح قليلة مغمسة بالموبقات والمحرمات والاعتداء على ثوابت وثقافة الأمة  ؟ كيف تحول الطرب ومهرجانات الغناء ومثلهما شراء النوادي الرياضية وإقامة المشاريع الفاشلة العبثية إلى نهج تكاملي لكسر الإرادة وتضييع مقدرات الشعوب في الوقت الذي تسير فيه قافلة الشعوب في وديان الموت والجوع والفقر والكآبة ؟ أليس هذا بأشد من تآمر الأعداء علينا ؟

في وقت ما من  زمن المنفى  كنت أجلس بعد مشقة النهار قليلا لأستمع لمقدمة اغنية الربيع أو إحدى اغنيات أم  كلثوم أو فيروز ذات زمان جميل حيث الايقاع البطيء يربت على كتف خاطري لأهدأ وتتباطىء دقات قلبي وتتلاشى حبال الشَّد  ، للحقيقة المجردة أنني لم أعد أستطع  الشعور بالزمن الجميل عند الاستماع  لأي من اولئك لأن كل هذه المخزونات الاحتياطية من راحة البال إمتلأت بالدبابيس وراح الألم ينزف منها  ولم يعد اي منها  قادرا على إنزال التوتر من ذهني فمواجع الأمة تسللت في كل المسامات وشغلت كل الفراغات ، لم يعد صوت عبد الحليم  أو فريد قادرا على إبطاء هدير  القلب من الاضطراب لأننا في حالة استنفار دائم وشعور بوجودنا المستمر في خط المواجهة ولا وقت للمنفى ولا أغنيتي ، ووفقا لهذه المسطرة فإن جيل الرويبضة من التافهين وجنود الشيطان الجدد لا شك انه يضيف دبابيس أخرى داخل النفس ويستفز كل خطوط الدفاع لأن هؤلاء المطربين والفنانين أصبحوا جزءا خطيرا من ( باكيج ) واحد يجري دسه عنوة  وبكبسولة واحدة في  جوف الأمة العربية ويتضمن في داخله حبوبا سامة فتاكة  متضامنة من  : الإلحاد – المثلية – الإنحلال – الحريات الدينية والجنسية والاجتماعية – الفن والطرب والتعري – الهجمات المرتدة على معالم الإسلام وتشريعاته ونواهيه ومحرماته ، نحن اليوم نعايش كبدا من نوع جديد يتحدى كل ما نؤمن به ويضرب به عرض الحائط الأمريكي ويهدم سقف السكينة على رؤوسنا .

طبقات واسعة من الشعوب العربية فقدت البوصلة ووصلت مرحلة الهذيان ولم تعد قادرة على فهم أو ترتيب الأولويات أو اتخاذ القرارات التي تصب في الصالح الوطني أو الأممي ، لو كان هؤلاء يبحثون عن الامل الحقيقي لوجدوه في مبادرات الفضيلة الداخلية ، ولو كان صاحب الأبيض الباحث عن الأمل يريد أن يمنح لبنان بعض الأمل لتبرع بكامل ريع الحفل لقسط من كَسَرات لبنان وفقرائه ومعدميه ومؤسساته المفلسة ، لو كان الغناء أداة شحذٍ ورفع لهمة وعزيمة الامة في الاتجاه الصحيح لبث الروح الحقيقية التي نريد سماعها وأسقط الكلمات المفتاحية الصحيحة في آذان المنطربين .

افراح الامة ضمن هذا المستوى من الحفلات والسهرات انقلبت إلى عصرالتصحر العربي وذهبت  إلى الصالح الإسرائيلي دون أي نقاش ، في كل مرة تُضَرب فيها أخلاق الأمة أو مبادؤها  فالرابح المباشر هم اعداء هذه الأمة ، الحصيلة هي عشرة لصالح شعب الله المختار مقابل واحد لشعب الله المذبوح والمغضوب عليه  ، دولة الكيان  المؤقتة  هي من يشعل النار في السودان وليبيا و في سوريا ، هي نفسها تقف وراء تحييد دولة بحجم العراق وحرق اليمن وصناعة الخرائط الجديدة  ، هذه نفسها من  تعزل  وتطلق سراح أو تنصب ملوكا وتقيم جمهوريات ، هي نفسها تقف وراء صناعة الفن العربي البذيء بفنانيه وتمثيلياته وأفلامه ومسلسلاته ومهرجاناته ، كيف وأين ومتى؟   ، إن احدا لا يرى شيئا ولا يمسك دليلا ، إنها كالهواء والماء يتسلل ولا يحس به أحد ، هي مستعدة لابتكار ديانات جديدة واكتشاف قارات جديدة ، كيف لا وهو صراع البقاء الأزلي ،  إنها أكثر أنماط التحديات  السياسية والصناعية تطفلا و ذكاءا وقدرة على التكيف والتلون والاختفاء في أرضية المشهد العربي ، اسرائيل ليست سحرا ولا آلهة ولا شيئا معجزا ولكنها تحسن استغلال المال واغواء العقول وتتقن  النمو في تخلف القبائل وغضب الجاهلين وتزمت الحانقين وعمى المتكبرين والانعزال عن العلم   ، لذلك لم يعد من الممكن التمييز بين فن يصنع الهزيمة وفن يرتقي بالأمة ،  لاقيمة لطرب ولا لاحتفال ولا مهرجان إن لم يكن الصحو هو جزءا منه ، ولا فائدة من صحوة شعوب إن  لم تفهم ان اسرائيل وكل مشتقاتها هي عدوها الأول والأخير .

النقطة التي ينساها  الكثيرون منا  وهي أصل الحكاية وقاعدة التفسير لكل الظواهر الغامضة والمشفرة التي تفسر موجة الجنون  هي أننا كلنا ملطخون بالبقع الأمريكية مثل تلك التي تبقع الملابس المتسخة ، من السطح وحتى النخــاع  ، نعيش الحياة الأمريكية بكل تجلياتها ومتاعها ولذتها وعبوديتها ونمارس العشق والبغض والقتال والتوافق وفقا للرؤية الأمريكية والحلم الأمريكي دون أن ننتبه حتى ، نمارس السياسة والدين والاقتصاد والحفلات وفقــا للرؤية الأمريكية   ثم يدعي بعضنا انه متشدد اسلامي او أخ مسلم أو يساري او اشتراكي أو شيوعي او قومي او علماني ولكننا في نهاية المطاف كلنا مختومون بختم الضمان الأمريكي  لعشرين سنة قادمة ولهذا السبب فعندما تسمعون ان بلدا في الشرق الأوسط يحاول الخروج عن المنظومة الأمريكية ويتجرأ بقراراته لوحده فعليكم ان تضحكوا كثيرا على هكذا نكتة ، وعندما تسمعون أن الجيش ومقدرات الدولة تحرس حفلة الأمل البيضاء وتمارس حقها (السيادي) في إقامة الحفلات ورعاية ( حقوق الحفل والاحتفال )عليكم ان تضحكوا اكثر ، وعندما تسمعون شعارات رنانة لمتأسلمين  او علمانيين او حزبيين أو برلمانيين سيعملون لصالح الوطن  فاضحكوا اكثر وأكثر فكله رضع من نفس الحليب المستورد واكل من ذات القمح الأمريكي المجاني أو المدعوم .

بيروت ليست بحاجة لاعادة تدوير البلاستيك والزجاج والحفاظ على بيئة السلام  والاحترارالعالمي ، ولا تحتاج موازنة نسب ثاني اكسيد الكربون الذي تنتجه الطائفية الملعونة وفرقاء الوطنية المزيفة ، كما انها ليست  بحاجة إلى  المزيد من الهزائم المزينة بالصخب والموسيقى لأن موسيقى الانفجار لا تزال تَطِن في رؤوسنا منذ ثلاث سنوات وابصار الموتى والضحايا لا تزال شاخصة بانتظار ان تظهر البراءة ويظهر المجرم الذي قتل بيروت وسرقها ومنع فيها الأمن والأمان  ووضع فيها كل حجارة التعثير لكل تكفر بالمقاومة ، بيروت ليست بحاجة الى جرعة كوكايين أبيض تمنحها رعشة اللذة وسط عسرة الأيام وضياع الحقوق للمواطنين المسحوقين  لأن الغناء لا يعفي من المسؤوليات ، الملابس البيضاء التي ارتداها المحتفلون في الحفل السيكوباثي ليست في الحقيقة إلا الزي الموحد الرسمي للسجن الكبير الذي يعيشون فيه ، والحفل الساهر لم يكن إلا تكملة لمسلسل الهزائم المستمربلا توقف وتسلية عابرة للسجناء ، يحتاج لبنان مثل كثير غيره إلى معجزة تكسر زجاج نوافذ السجن الكبير لكي يرى الناس حقيقة حياتهم ومصيرهم ومسار حياتهم العبثية .

الحفل الحقيقي الذي تحتاجه بيروت وباقي العواصم المنكوبة لا يمكن أن يحييه الرويبضة من هضبان الى رمضان أو دربكان أو حموبيكيان ، الحفل الدي تحتاجه بيروت  هو الحفل الذي يتوج نهايات المعتقلات العربية الكبرى من الانفصام والطائفية والجاهلية والقبلية والانقسام والتشرذم والولاء المصدر نحو الشرق والغرب ، إنه الحفل الختامي بإنهاء الضعف والتبعية وبقايا الاستعمار من البلاد والتوحد في مواجهة أعداء الأمة .

المصدر : رأي اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى