تقارير ودراساتفضاء الرأي

المواجهة القانونية للرشوة في موريتانيا / محمد كونين

تعتبر جريمة الرشوة ظاهرة عالمية شديدة الانتشار ذات أبعاد واسعة تتداخل فيما بينها، ولذلك فهي ظاهرة اقتصادية واجتماعية وسياسية تتمركز بشكل أكبر في المجتمعات الرأسمالية، وخصوصا في دول العالم الثالث بحكم فساد مؤسسات الدولة و تدني مستويات الرفاه الاجتماعي، وموريتانيا على غرار الكثير من البلدان عانت منذ عقود من هذه الظاهرة التي تنامت واتسع نطاقها في العصر الحاضر وتسللت إلى معظم أجهزة ومؤسسات الدولة الحديثة، ووصلت تكلفتها السنوية حسب تقديرات الصندوق الدولـي لسنة 2016 إلـى: 01،5 و 02 ترليـون دولار تقريبـا أي مـا يقـارب % 02 من إجمالي الناتج المحلي العالمي، و قد أشارت المديرة العامة للصندوق الدولي أن التكلفة الاقتصادية المباشرة للرشوة معلومة، غير أن التكاليف الأخرى غير المباشرة أكبر وأشد وطأة، و تشكل أكبر عائق أمام جهود التنمية .

وأمام هذا الوضع الكارثي كان لابد من إنشاء مراكز مؤسساتية ووضع نصوص قانونية تهدف إلى الحد من انتشار هذه الظاهرة التي تقضي على مبدإ المساواة بين المواطنين أمام القانون، وتنخر جسم الدولة وتقضي على هيبتها، وتطعن في قيمة المرفق العمومي الذي من مبادئه الأساسية المساواة والمجانية في أداء خدماته للمواطنين، وانتهاك مبدأ المساواة أمام القانون يعني ضياعا لقيمة العدل في المجتمع، وتلاشي فكرة القانون من الجماعة، لأنه إذا كان القانون هو تلك القواعد المجردة والملزمة، فإن انتشار الرشوة يعني أننا ألغينا أساس القانون ونفينا فكرة العمومية والتجريد.

ولأن الموظف العمومي هو الأداة التي تقدم بها الدولة خدماتها للمواطنين وهو المظهر البشري للدولة كشخص معنوي عام فقد جاءت التشريعات تحمي هذا الموظف من نفسه ومن الأهواء التي قد تعتريه كبشر، فجرمت الرشوة وعاقبت عليها، وقد عرفت الرشوة بداية في القطاع العام إلا أن ذلك لا يعني عدم وجودها في القطاع الخاص بل كانت موجودة، لكن القوانين لم تكن تجرمها في البداية، بيد أنه وبعد انتشارها في القطاع الخاص كان ضروريا على التشريعات التصدي لها وتجريمها، حفاظا على القطاع الخاص من استفحال هذه الظاهرة فيه.

لقد ظلت جريمة الرشوة ولاتزال محل إشكالات قانونية عديدة لم تحسم منذ زمن بعيد، لذا اختلف الفقهاء في أمرها وتضاربت حولها أحكام المحاكم، وتعتبر جريمة الرشوة من أقدم الجرائم الإنسانية وجدت في كل الأزمنة والشعوب – وإن تغيرت صورها ومظاهرها في المجتمعات المختلفة قديما وحديثا – فقدعرفتها أعتق المجتمعات القديمة كالإغريق والرومان…وتناولها قانون اللوائح الاثني عشر حيث كان يعاقب كل من يرتشي من القضاة بالإعدام آخذين بنفس الصرامة في التعامل مع هذه الجريمة عند الإغريق، غير أنهم استعاضوا عنها فيما بعد بغرامة تساوي المبلغ الذي أخذه المرتشي ، وتناولتها كذلك شريعة حمورابي الضاربة في أعماق التاريخ، والتي تكاد تكون أقدم تشريع عرفته البشرية.

ولئن كانت جريمة الرشوة عرفتها المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور، وتفشت فيها بصورة فاحشة، وجرمتها تشريعاتها وعاقبت عليها، فإن الشريعة الإسلامية التي جاءت لتطهر الناس من الفساد وتقيم العدل بين خلق الله – شعارها في ذلك لافرق بين الفقير والغني،والقوي والضعيف- كان من الطبيعي أن تجرمها باعتبارها داء خطير فتاك يهدد تماسك وأمن واقتصاد الأمم والشعوب ، لذلك فقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة في تحريم الرشوة ولاسيما رشوة الحكام وأصحاب السلطة ومن يتقلدون المسؤولية، وتبرأ الإسلام ولعن كل من خاض في مستنقع هذه الجريمة وتوعده بسوء المصير .

وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية جريمة الرشوة جريمة تعزيرية تاركة أمر تحديد تفاصيلها وعقوبتها لولي الأمر ، وأدلة تحريمها ثابتة بالكتاب والسنة، قال تعالى : “ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون…” ، وقال جل من قائل: “سماعون للكذب أكالون للسحت” ، وقد فسر العلماء السحت بالرشوة.

أما في السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم “لعن الله الراشي والمرتشي” ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم “هدايا الأمراء غلول” .

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ابن رواحة إلى اليهود ليقدر ما يجب عليهم في نخيلهم من خراج، فعرضوا عليه مالا يبدلونه، فقال لهم : “فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت وإنا لا نأكلها .

وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به، قيل وما السحت قال:الرشوة في الحكم” ، وكان أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه يتشدد في محاسبة عماله ويحصي أموالهم بعد تركهم للخدمة العامة ليعرف حجم الزيادة، وهل استغلوا تلك الوظائف لحسابهم الخاص أم لا؟ ، وهذه الخطوة هي ما يعرف اليوم في التشريعات المعاصرة بالإثراء غير المشروع.

 

لمتابعة القراءة:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى