فضاء الرأيقضايا المجتمع

لا تنشروا أوساخ الناس على رؤوس الأشهاد / محمد ولد محمد سالم

محمد ولد محمد سالم / كاتب موريتاني

تابعت بالصدفة حلقة من برنامج “الشوفه توف” على التلفزيون الوطني، وقد كان الشاب الذي جيء به ليتلقى اعتذارا من صديقه عن إساءة أساء بها إليه مذهولا، ليس لأن صديقا قديما أراد أن يعتذر له، بل لأنه جيئ به إلى التلفزيون وأشيعت أسراره على عموم المشاهدين، وحق له أن يذهل، فالعلاقات الخاصة، وما ينتابها من اضطرابات هي أسرار شخصية لأصحابها، وقد لا يطلع على تفاصيلها أقرب المقربين لهم، وعندما نأخذها إلى ساحة إعلامية فضائية، فإننا نعلن عن تلك العلاقة بأسرارها وتفاصيلها على أوسع نطاق، ما قد يضر بعض أصحابها ضررا ظاهرا، لأن الخلاف، في العادة، يكون فيه طرفان، مخطئ ومصيب، وفي بعض الأحيان يكون الخطأ فادحا يصل لحد الجريمة،

وهذا النوع من الخطأ لا ينبغي بحال من الأحوال جلبه لساحة الإعلام، وإشاعته بين الناس، ثم الاعتذار عنه وكأنه فعل عادي، فليس هناك جرم عادي عندما نتحدث إلى جمهور، فأصغر جريمة ينبغي أن تصور على أنه فاحشة كبيرة، عندما نتحدث إلى جمهور بحجم متابعي التلفزيون، وأن لا يعتبر مرتكبها بطلا حين يعتذر لمن ارتكبها في حقه، لأنه يبقى عليه الحق العام المتلعق بانتهاك القانون، والحق الأخلاقي المتعلق بانتهاك قيم المجتمع الذي ينتمي إليه، وإن كان مسلما حق الله في التوبة والاستغفار، وكل هذا يجعل ساحة الاعتذار ليست هي التلفزيون.

أعرف أن أصحاب البرنامج سوف يدافعون عنه بأنهم يسعون في الصلح بين اثنين، و”الصلح خير” بنص القرآن، والساعي فيه مأجور، لكنّ الصلح مبدأه الأول الحفاظ على أسرار المتخاصمين، وعدم إشاعتها، واحتواء الخلاف لكي لا يصل إلى الآخرين فيتسع، وكيف لا يشيع خلاف ويتسع وهو مذاع على شاشات الفضاء !،

وقد رأيت في الحلقة المذكورة كيف أن أحد الشابين صاحبي الخلاف خلال النقاش أفشى سرا من أسرار طباع الآخر التي ليست محمودة، ومن المؤكد أن صاحب هذا السلوك لا يسره أن يقال عنه ما قيل على التلفزيون، وسيضره ذلك عند الكثير من معارفه، وسينفر منه آخرين لم يكونوا يعرفونه.. أليس في هذا استباحة لعرض مسلم؟.. هل يدخل في باب إشاعة الفاحشة المحرمة بنص القرآن؟ !، لا أعرف.. لكن هذا النوع من البرامج خطير على سلوك المجتمع وآدابه.. لا ندعي أن مجتمعنا هو مجتمع الصفاء والنقاء، فهو ليس برئيا من الأخطاء والممارسات المشينة والفواحش، التي تتزايد وتنتشر بشكل مخيف، يحتم على الجميع التصدي لها بقوة، ومحاربتها بكل الطرق، لكن، ليست هذه هي الطريقة السليمة للتصدي لها.

سوف يتعللون بأن هذا النوع من البرامج أصبح شائعا على شاشات الفضائيات العربية، وأنها برامج ناجحة ولها جمهور واسع.. هذا صحيح، لكن، هل النجاح الجماهيري والشيوع مقياس صحيح لــ”الصالح” و”الحق”؟، لا أظن ذلك. قد يكون مقياسا للربح، لكنه ليس مقياسا للحق ولا للصالح، والإعلام الصحيح الملتزم، ينبغي أن تتجه بوصلته بشكل دائم إلى ما هو صحيح وحق ومفيد للمجتمع، وليس إلى ما هو جماهيري ودعائي، لأن الرسالة في كل إعلام هادف ينبغي أن تكون أولى من الربح، هذا في حق الإعلام الخصوصي الذي يحتاج إلى الربح لكي يتواصل، فكيف بالإعلام العمومي الذي لم يوضع أصلا لأهداف ربحية، والذي يمول من خزينة الدولة، ويهدف إلى الأخذ بالمجتمع نحو الأفضل والحفاظ على قيمه وأخلاقه وهويته..

ما هي الرسالة التي تبغيها التلفزة الموريتانية من وراء هذا البرنامج؟ هل تريد به أن “تنشر غسيل” مواطنيها على العلن، وتشيع الغيبة فيه بأكثر مما هي شائعة، وترفع الغطاء عن أناس سترهم الله بسيئاتهم، فالأولى بهم أن يستتروا بها، وأن يسترهم غيرهم بها.. أعرف أن العملية ما تزال في بدايتها، وأنها ما تزال تسير على استحياء، ولم تصل بعد إلى الحد الذي يقال معها إنها أصبحت تشيع الفاحشة، لكن، لننظر إلى البرامج العربية التي يحاكيها برنامج “الشوفه توف”، وحلقاتها مبثوثة على الإنترنت، سنجد المرأة التي خانت زوجها مع رجل آخر، وجاءت تعترف بذلك وتستسمح زوجها، سنجد الشاب الذي غرر بفتاة وأوهمها أنه سوف يتزوجها ثم مارس معها الفاحشة وتركها حاملا.. سنجد الشاب الذي سرق أموال صديقه، ثم عاد بعد سنوات ليعتذر ويطلب منه الصفح، والمرأة التي استعملت السحر لتفسد بين زوجين، والعم الذي أكل حقوق أبناء أخيه، جاء يعتذر بعد أن فات الأوان، والفواحش المنشورة من خلال تلك البرامج لا تحصى، هل هذا حقا هو ما نريده أن نراه على شاشة تلفزيوننا؟.

إن الصلح والاعتذار عن الجرم محله القاضي أو الحكمان أو الأهل أو الأصدقاء، وليس محله الإعلام، لأن الإعلام الحق هو إعلام نقدي توجيهي، عليه أن يدين الظواهر السلوكية الشائنة والإجرامية الفاسدة، ويحذر منها بكل وسيلة، ولا يتطرق لها إلا من هذا الباب، وإذا كان الضحية يملك حق العفو والمسامحة، والقاضي يملك حق إيقاف الحكم والتبرئة، فإن الإعلام لا يملك ذلك الحق، لأنه رقيب على هوية المجتمع وأخلاقه وسلامته من الشرور والفتن، وينبغي أن يقول للمسيء لقد أسأت وأجرمت، وأن يحقره أمام الرأي العام، لا أن يبجله ويقدمه في شكل إنساني جميل ومحبب لأنه اعترف واعتذر، فذلك الاعتراف والاعتذار مسألة شخصية خاصة، والإعلام معني بالعام والمشترك، وهو هنا “الجرم” أو “الإساءة” التي انتهكت القيم العامة، وهددت السلم الاجتماعي.

هذا البرنامج لا يناسب تلفزيون الجمهورية الإسلامية الموريتانية والأولى أن يستبدل بغيره، وهناك الكثير من الأفكار الجميلة الخلاقة التي يمكن أن تخصص لها برامج، وتكون مفيدة للمجتمع.. ماذا لو كان هذان الشابان اللذان استضافهما البرنامج صاحبي مشروع بسيط ناجح يقدم نموذجا لكفاح شبابنا وإصراره على النجاح، ويكون ذلك حافزا لغيرهما على السعي للنجاح؟

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى