الصدى الثقافيقضايا المجتمع

من باب الوضوح أزمة الثقافة.. أسباب غير محيرة! 1-2/ محمد عبد اللطيف

أسئلة كثيرة مؤجّلة في حياتنا الثقافية، لأن الناس يئسوا من الجواب على كل ما سألوا عنه يوما!

عندما تمعن النظر في الحراك الثقافي الموريتاني -أو تنظر فحسب فالأمر لا يحتاج إلى كبير تأمل- تجد أسباب الركود، فالمثقف المعزول عن نسق عام منخرط في يومياته المسوّرة بالعابر والدعائي والسهل، ولا رغبة لديه في التصدي لبحث أصول أزمة الثقافة في المجتمع، وتجد المؤسسات الثقافية مجرّد هياكل لدعم السائد، فهي تؤطّر المتّفق عليه، وتجترّ الصور النمطية الباهتة لأدوار قديمة لا غير.

 

إن جسد الثقافة في هذا البلد تيبّس عقودا، أما روحه فهي مختطفة منذ ملأتها السياسة بالطموح الأجوف.

 

فنحن منذ عقود أربعة -على الأقل- نعيش في حالة تردّ ثقافي شامل، ومن المؤكّد أن الأمر لم يحدث صدفة، فما الأسباب التي أوقعت هذه الكارثة على أم رأس الثقافة والمثقفين وبالتالي المجتمع الذي كان ينظر بأمل إلى تلك الكائنات؟

 

سأحاول في هذا المقال والمقال التالي التصدي لتشخيص الأسباب، على أمل أن تتضافر جهود المهتمين لإحداث سجال حول هذه الظاهرة الخطيرة، وسأحاول فعل ذلك دون مطولات و إسقاطات لوذعية تخلب لبّ المثقّف “الإطاري” المعتاد.

 

المثقّف العضوي.. كان الأبرز!

       لقد طغت صورة “غرامشية” مشوّهة على كامل الحراك الثقافي منذ حصل شبه اتفاق بين المثقف وصاحب السلطة غداة انقلاب 1978، فلم يعد المثقّف مرابطا على ثغر نقد السلطة كما كان في الستينات وبداية السبعينات، كما لم تعد المؤسسات الثقافية منفتحة على أي خطاب نقدي جاد.

 

إنها الخديعة الكبرى التي أشعرت المثقفين بالمشاركة، فتحوّلت الثقافة -والفن بحكم الصلة الوطيدة- إلى الانخراط في علاقة ذيلية مع السلطة، قصارى هم الحراك الثقافي فيها أن ينخرط في تبرير وتلميع قرارات “تحرير العبيد” و “تهذيب الجماهير” ثم “محاربة الأمية” و الانخراط في “الحملات الانتخابية” بقصائد ومقالات لاذعة، والترويج بشكل فج لحملة “الكتاب” العبثية.

 

كاد الأمر أن يكون هوسا جماعيا، فقد رأينا في تلك المرحلة عائلات عريقة تفتح أبواب مكتباتها التي هجرها أبناؤها أمام كاميرات حملة “الكتاب” وأميين أثرياء يشترون أعدادا هائلة من الكتب لتوزيعها على فقراء لا يجدون ما ينفقون.

 

في أحد معارض كتاب جامعة طيبة قابلت مسؤول المعارض في مركز دراسات الوحدة العربية، حدثني بمرارة عن ما شاهده في معرض الكتاب الوحيد في نواكشوط بداية الألفية، قال: لقد بعنا كلّ شيء بشكل تافه.. كان هناك بعض الوزراء ورجال الأعمال الذين يطلبون أي كتب موجودة.. لا يهم العنوان أو الموضوع، يريد كمية كبيرة فحسب كي يتم تصويره بجانبها!

 

ما حصل كان مسرحيا؛ عقيد أمّي أشعر كل المثقفين بأميتهم أيضا، شعراء كانوا من عتاة الكادحين طالما انتقدوا في شعرهم سياسات “الأبارتايد” و “استغلال ميفرما” أصبحوا الآن ينشدون شعرهم الأجوف في أهمية “الكتاب”! مثقّفون أمميون عادوا إلى مكتباتهم لينفضوا الغبار عن أمجاد الأسلاف -شكليا- ويلتقطوا صورا ملونة بجانب صناديق الكتب العتيقة، بل حتى عتاة المنادين بتحرير العبيد انطلقوا إلى “آدوابه” كي يقنعوا المعذبين على تلك الرمضاء صيفا بضرورة اقتناء كتب تتحدّث عن الزراعة العضوية!

 

      هكذا؛ تجذّرت أزمة الثقافة، وتحوّلت إلى اليومي، وأمكن استغلالها، ولأسباب أخرى أيضا -قد تكون أكثر تفاهة- أصبح المثقّف عضويا هو الآخر، مرتبطا بجسد السلطة، يتداعى له بالسّهر والحمى، ويئنّ لمعاناته، ويرفع عقيرته بالصراخ دفاعا عنه أمام أي نقد!

 

حين تحدّث محمد حسنين هيكل عن تسليم السلطة لرئيس مدني منتخب في موريتانيا، قدّم تحليلا منطقيا، بناء على سؤال استفزازي من محاوره بشأن المقارنة بين مصر وموريتانيا، رفض هيكل هذه المقارنة، نظرا إلى أن مصر -من وجهة نظره- تمثّل من الأهمية للعالم والخطر قدرا لا يسمح لها بالتغيير الديمقراطي، فهي ليست دولة هامشية كموريتانيا!.. وأكمل: رغم جمال ما حدث في موريتانيا علينا أن ننتظر أعواما أخرى للحكم على تلك التجربة، فقد حدث ذلك في السودان من قبل ولم يكتمل!

 

ربما لم يحتج هيكل لأعوام أخرى، فقد انحسرت تلك الصرخة النقدية في وادٍ موات، ثم مارَ الليل وابتدرت سيول جارفة من المقالات والردود الشوفينية للمثقفين والكتاب الموريتانيين شتما لـهيكل ومصر وكل من يشكّك في عظمة موريتانيا وديمقراطيتها الفتية، ولم يتذكر أحدٌ منهم تفاهة هجومه بعد عام واحد، حين انخرط الجميع في تسوية الأرض وتمهيدها بعد حركة العسكر السريعة في الميدان.

 

إنّ تحوّل المثقف الموريتاني والمؤسسات الثقافية -على شكليتها- إلى هذه العلاقة البائسة مع السلطة كانت أحد أبرز الأسباب في غياب حياة ثقافية يمكن رصدها من قبل أي زائر، أو الحديث عنها عن بعد، وهذه ليست هي النتائج فحسب، بل إن غياب الروح النقدية في المجتمع، وطمر فكر “المحاسبة” والمساءلة، إضافة إلى تهميش الأنساق المخالفة، كلها نتائج طبيعية لتحوّل الثقافة إلى هذه العلاقة العضوية مع السلطة.

 

>>> يتبع في أسباب أخرى

المصدر :تقدمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى