الأخبارفضاء الرأيقضايا المجتمع

مهارات واشتراطات.. للدبلوماسي الموريتاني في أميركا / بقلم: الإعلامي البارز محمد ولد المنى

في الصورة يظهر السفير السابق محمد فال عينيا في الوسط وعن يمينه الاعلامي البارز محمد المنى
المصدر صفحة الكاتب

يتمتع الدكتور فَّال عينينا، سفيرُنا السابق في واشنطن والأستاذ بجامعة «رايت ستيت» ونائب رئيس شركة «جيمس انفستيسمنت»، بحس اجتماعي عميق وثري ورزين، قلّ مثيله بين أفراد الانتلجنسيا الموريتانية، لاسيما المغتربة منها على الخصوص. لكنه أيضاً صاحب حس وطني شديد الاعتزاز بهويته الموريتانية. فخلال إحدى سفراته الأولى إلى أميركا اللاتينية، والتي اعتاد الذهاب إليها منذ أواسط الثمانينيات بدعوة من جامعاتها لإلقاء محاضرات في مجال تخصصه (الاقتصاد والسياسة المالية).. ساءَه كثيراً أن موظفي الجوازات في مطار «ليما» (عاصمة البيرو) لم يستطيعوا التعرف على موريتانيا التي يحملُ جوازَها، ولم يضعوا له ختمَ الدخول إلا بعد أن عرفوا أن بحوزته «البطاقة الخضراء» الأميركية. ولم يقبل فَّال خلال جميع أسفاره إلى هناك، وسفراته الأكاديمية الأخرى إلى اليابان وأوروبا والصين، أن يدخل إلى أي منها بغير جوازه الموريتاني.

وذات مرة جاء إلى فرنسا بدعوة من جامعة باريس لإلقاء محاضرة أمام جَمْع من رجال الأعمال الفرنسيين. وفي طريقهما من الفندق إلى الجامعة، خطابَه رئيسُها: «السيد فّال، أعلم أنك دائماً ما تقدِّم نفسَك بصفتك موريتانياً، لكن إن فعلتَها اليوم أمام الحشد الكبير الذي استدعيناه من رؤساء ومديري كبريات الشركات، فإن ذلك سيفقِد محاضرتَك جزءاً كبيراً من أهميتها.. أرجوك لا تفعل ذلك يا سيد فّال». وأمام إلحاح راعي المحاضرة ومضيفها اقترح فّال صيغةً أعجبت الراعي وأنهت الإشكال؛ ألا وهي أن يكتفي بالقول إنه قادم من الولايات المتحدة حيث يدرّس في جامعة «رايت ستيت».

وفي منتصف التسعينيات كان فّال، وهو حينها السفيرُ المقيم لبلادنا في واشنطن، يقدِّم أوراقَ اعتماده كسفير غير مقيم في البرازيل، ضمن مجموعة من السفراء الجدد في العاصمة برازيليا، وخلال وقفة قصيرة مع الرئيس «فيرناندو أنريك كاردوسو» سأله: يا دكتور، أنت قادمٌ من الولايات المتحدة، وحسب علمي فإنك اسم مشهور في الأوساط الأكاديمية هناك، قبل أن تصبح سفيراً لبلادك، لذا أحببتُ أن أعرف منك كيف يَنظر الأميركيون إلى البرازيل؟ كان السؤال مفاجئاً لـ«فال»، لكنه رد بنباهته المعهودة: يتداول المفكرون الاستراتيجيون الأميركيون مقولةً مفادها أن «البرازيل ستظل تنشد التقدم وتسعى إليه دائماً». وكان لهذه المقولة شطر مكمِّل نصه: «.. لكنها لن تبلغه»، إلا أن فَّال، لِما اتصف به دائماً من لباقة وحنكة، لم يشأ إيراد ذلك الشطر المتمم. فتفاجأ الرئيس بالمقولة وبكمِّ الصور النمطية الذي تختزنه عن بلاده، ولعله سمعها لأول مرة كما يتضح من ردة فعله، فازداد اهتمامه بـ«فّال»، واقترب منه مستفهِماً: هل لديك وقت لنتغدى معاً اليوم قبل عودتك إلى واشنطن؟ فرد فال: بكل سرور يا فخامة الرئيس. وعلى مائدة الغداء دار نقاش حول المقولة الأميركية المذكورة آنفاً، بين فال والرئيس البرازيلي ووزرائه ومستشاريه الحاضرين. ثم وجّه الرئيس «كاردوسو» سؤالا لضيفه الموريتاني: وماذا تعني لك شخصياً البرازيل؟ فقال «فّال»: البرازيل بالنسبة لي تعني أشياء مهمة وكثيرة، يحضرني منها حالياً الآتي: حين كنتُ مراهقاً شغوفاً بكرة القدم، وكنتُ مولعاً باللاعبين البرازيليين مثل بيلييه وزيكو وجيلما سانتاوس.. كانت برازيليا بالنسبة لنا واحدة من أكبر عواصم كرة القدم في العالم. أما في شبابي فقد أصبحت البرازيل تعني لي شيئاً ذا أهمية استثنائية في تاريخنا الوطني. فقد كانت أهم التغيرات والتفاعلات في بلادنا على امتداد تاريخها تتم على محور الحركة «جنوب -شمال»؛ فمن الشمال جاء الإسلام واللغة العربية، ونحو الشمال انتقلت الدولة المرابطية لتؤسس مراكش عاصمةً لها. وعلى مدى قرون كان النشاط التجاري متمثلا في تجارة القوافل الصحراوية يجري عبر محور الشمال والجنوب، وحتى التجارة الأطلسية كانت تتم أيضاً وفق المحور ذاته تقريباً، وكانت معظم قوافل الحجيج تسلك المحور نفسه شمالا. وحين دخل الاستعمار الفرنسي في بداية القرن العشرين دخل أساساً من الجنوب متمدداً باتجاه الشمال، ليمثل دخولُه نقطةَ تحول وبداية تغيير كولونيالي عنيف وواسع في حياة البلاد. وبعد خروج الاستعمار ونيلنا الاستقلال السياسي عام 1960 بقي استقلالنا منقوصاً لأسباب كان أهمها انعدام التواصل الكافي بين غرب البلاد وشرقها، وكان الانشغال الأكبر لدينا في ذلك الوقت هو التغلب على هذا التحدي الذي فرضته وعورة التضاريس الشاسعة وانعدام الإمكانيات المالية واللوجستية الكافية لإنشاء بنية تحتية طرقية، إلى أن تولّت شركة «ميندز» البرازيلية في منتصف السبعينيات بناء طريق «الأمل»، فكان أهم وأضخم مشروع في تاريخ بلادنا، إذ مثّل بطوله الممتد على مسافة 1100 كم أول وسيلة ربط لتعميق التفاعلات وتوسيعها بصورة غير مسبوقة على المحور «شرق -غرب»، كما مثل شريان حياة يمد تسعا من ولايات الوطن بأسباب النشاط والنمو.. لذا ما أن يَذكر الموريتاني المعاصر ذلك المشروع البنيوي الطرقي الضخم الذي كان له كبير الأثر في حياتنا، حتى يذكر على الفور اسم البرازيل واسم شركة «ميندز» البرازيلية وإنجازها الطرقي الرائع حقاً.

حين تسلم فّال منصبه كسفير في واشنطن مباشرةً عقب حرب الخليج الثانية، كانت علاقاتنا بالولايات المتحدة عالقة في شباك ملفات معقدة اختلقتها واشنطن واشترطت رضوخنا للرؤية الأميركية حولها كشرط لعودة العلاقات الثنائية إلى ما كانت عليه من قبل. وقد أدرك فّال بحسه الدبلوماسي الفائق أن الإدارة «الديمقراطية» تخلت عن هذه الملفات للكونغرس كجزء من صفقة غير معلنة مع لوبيات اليمين الجمهوري داخل مجلسي النواب والشيوخ، واستطاع حلحلة تلك الملفات جميعاً من خلال العلاقات التي طورها مع زعماء جماعات الضغط داخل المجلسين.

 تم تحويل فال سفيراً في الجزائر، وحل محله في واشنطن سفيرٌ قادم من باماكو، فشكر الحكومةَ الموريتانية على الثقة التي محنتها إياه وقدّم لها اعتذارَه عن قبول المنصب الجديد، قائلا إنَّ في وزارة الخارجية من الدبلوماسيين المهنيين مَن هم أدرى منه بالعلاقات الموريتانية الجزائرية، وهم أجدر منه بالمنصب.

ورغم ذلك ظلت الدولة الموريتانية تلجأ إلى فال في كثير من الملفات المتصلة بالعلاقة مع الولايات المتحدة، وكان يشترط على الرئاسة وعلى الوفود التي تتواصل معه لتسهيل مهماتها في واشنطن ونيويورك أن يكون كل شيء بعلم سفيرنا في حينه، وبحضوره المباشر أيضاً.

ومن طرافة فَّال ذلك الشرط الذي ما فتئ يطرحه على كل الشباب الموريتانيين الذين يتوسطون به للحصول على منحة دراسية في جامعة «رايت ستيت»، ألا وهو أن يبعثوا أولَ راتب يتسلمونه -بعد التخرج ونيل الوظيفة- إلى أمهاتهم! يقول: أعرف أنهم أصلا سيفعلون ذلك من غير أن أشترطه عليهم، لكني أريد تقويةَ ارتباطهم ببلدهم وبأُسَرهم! 

 

المصدر : صفحة الاعلامي محمد ولد المنى على الفايسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى