موريتانيا بين رهانات الوحدة وتجاذبات الهوية: الثقافة والحضارة في مفترق الطرق./ لبرفيسور محمدو لمرابط اجيد

منذ أن تولّى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الحكم عام 2019، جعل من تعزيز اللحمة الوطنية محوراً أساسياً لمشروعه السياسي. فجاءت المدرسة الجمهورية لتكون فضاءً تربوياً جامعاً يذيب الفوارق العرقية والقبلية ويوحّد الأجيال على قيم المواطنة، وتولّت وكالة تآزر تجديد مفهوم التكافل الاجتماعي عبر برامج تستهدف الفئات الأكثر هشاشة وتفتح أمامها أبواب الاندماج والعيش الكريم.
كما أُطلقت سياسات اجتماعية جديدة شملت التأمين الصحي المجاني لبعض الفئات الهشة ومجانية العلاج في حالات الطوارئ، وهو ما أعاد الثقة في الدولة ورسّخ حضورها كضامن للعدالة والإنصاف. وإلى جانب ذلك، برزت سياسة مدروسة لبناء نخبة وطنية قادرة على حماية النسيج الاجتماعي وتأمين الانتقال الهادئ نحو مستقبل أكثر عدلاً وتماسكاً، انسجامًا مع خطاب وادان وما تلاه من نداء جول التاريخي، بما حملاه من دعوة صريحة لتجذير اللحمة الوطنية ونبذ التفرقة وتعزيز قيم المواطنة الصالحة، باعتبارها الدعامة الحقيقية لأي تنمية راسخة وتقدم مستدام.
هذه الخطوات لم تكن مجرد إجراءات ظرفية، بل جاءت كوقاية من واقع حساس، تتجلى ملامحه في النقاشات المحتدمة حول الهوية والانتماء.
المجتمع الموريتاني يعيش اليوم لحظة فارقة يطفو فيها على السطح سؤال الانقسامات: إلى أي مدى يمكن للمشروع الوطني أن يتماسك أمام تجاذبات الولاءات الضيقة وضغط العولمة؟ وهنا يتضح أن قراءة الحالة الراهنة تفرض العودة إلى البنى التقليدية التي شكّلت لزمن طويل محركاً أساسياً للعلاقات الاجتماعية.
وفي مقدمة هذه البنى تبرز القبيلة، التي مثّلت عبر القرون الإطار الأبرز لحفظ القيم ونقل الذاكرة، فهي من جهة رافعة للتضامن الاجتماعي، ومن جهة أخرى تتحول في لحظات التوتر إلى أداة لإحياء الولاءات الضيقة على حساب الدولة الوطنية.
ومع صعود أنماط العولمة وما تفرضه من قيم استهلاكية وفردانية، باتت القيم التقليدية مثل الكرم واحترام الكبير أمام اختبار عسير. والأخطر أن الثقافة لم تعد تواجه فقط تحدي العولمة الاقتصادية، بل أصبحت عرضة للأدلجة عبر استعارة خطابات جهوية وعنصرية من سياقات خارجية وإعادة توظيفها محلياً، ما جعل منصات الإعلام والتواصل تتحول أحياناً من جسور للوعي الوطني إلى أدوات لإذكاء التوتر والانقسام.
وهنا يطرح السؤال الجوهري نفسه؛ كيف يمكن لموريتانيا أن تبني حضارة وطنية جامعة تؤمّن التقدم والتنظيم، وفي الوقت ذاته تغتني بثقافة متجددة تصون الخصوصيات وتجعل من التنوع رافعة قوة لا سلاحاً للصراع؟ فالحضارة بطبيعتها تميل إلى التجانس والنمذجة، بينما الثقافة بما تحمله من ذاكرة جمعية وخصوصيات محلية تضيف التعدد الذي يحمي الهوية، ومن دون معادلة دقيقة، قد يتحول التنوع من عنصر إثراء إلى عامل انقسام، وما يبعث على الأمل أن الدولة شرعت في استثمار الموروث الاجتماعي لا كبديل عن مؤسساتها، بل كرافد داعم لترسيخ خطاب وطني متوازن. فالمدرسة الجمهورية، وبرامج تآزر، وسياسات الحماية الاجتماعية، وبناء نخبة وطنية، كلها أدوات عملية لإعادة صياغة العلاقة بين الثقافة والحضارة، بما يجعل التنمية حاضنة للتعددية، ويجعل التعددية نفسها ضمانة للاستقرار.
إن موريتانيا اليوم تقف أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن توحّد قواها حول مشروع وطني متماسك يحتضن التنوع الثقافي ويعزز الوحدة، وإما أن تترك الساحة مفتوحة لانقسامات قد تضعف الدولة وتستنزف رصيدها الحضاري. وفي هذا السياق يبرز الدور المحوري لفخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، باعتباره قائد مشروع الوحدة الوطنية وحامل رؤيته الجامعة، من خلال استراتيجية تجعل من الدولة إطاراً للعدل والإنصاف، ومن التنوع الثقافي رافعة قوة لا مصدر خلاف. إن هذا الخيار ليس مجرد موقف عابر، بل هو مسؤولية تاريخية وضمانة لعبور آمن نحو مستقبل أكثر رسوخاً وعدلاً واستقراراً.