الأخبارمقالات و تحليلات

إنقاذ المستقبل أم محاسبة الماضي؟ إشكالية موريتانية في ضوء التجارب المقارنة /قاسم صالح

يتكرر في الخطاب السياسي الموريتاني شعار مألوف إنقاذ المستقبل أهم من محاسبة الماضي. وهو شعار يكاد يرافق كل عملية انتقالية، وخاصة عقب الانقلابات العسكرية التي ميزت المسار السياسي للبلاد منذ أواخر السبعينيات. وبينما يحمل هذا الشعار بعدا
براغماتيا يركز على الأولويات المستقبلية، فإنه يثير إشكالا عميقا: كيف يمكن بناء مستقبل عادل وآمن في ظل ماض لم يحاسب ولم يكتب بعد بموضوعية؟

نهدف من هذا المقال إلى مناقشة هذا التوتر بين المستقبل والماضي في الحالة الموريتانية، مع استحضار تجارب مقارنة عالمية قد تسهم في إضاءة طريق مختلف لتجاوز هذه المعضلة.
منذ انقلاب 10 يوليو 1978 ضد الرئيس المختار ولد داداه، عرفت موريتانيا سلسلة من الانقلابات (1979، 1984، 2005، 2008…) كان كل منها يسوق لنفسه باعتباره (تصحيحا) أو (إنقاذا وطنيا). غير أن النتيجة المتكررة كانت غالبا إعادة إنتاج الأزمات ذاتها هشاشة مؤسسات الدولة، انقسام اجتماعي، وتغليب المصالح الفئوية والعسكرية على المصلحة الوطنية.
إن تكرار هذه الظاهرة يشير إلى أن القطيعة مع الماضي لم تكن يوما فعلا وطنيا واعيا، بل كانت مجرد غطاء لتبرير الاستمرار في النهج ذاته مع تغير الوجوه.
من حيث المبدأ، التركيز على المستقبل أمر لا غنى عنه لأي دولة تبحث عن الاستقرار والتنمية. فموريتانيا تواجه تحديات كبرى
هشاشة البنية الاقتصادية واعتمادها على موارد أولية محدودة (حديد، ذهب، سمك…).
اتساع الفجوة الاجتماعية والشرائحية.
ضعف البنية التعليمية والإدارية.
لكن اختزال شعار إنقاذ المستقبل في مجرد خطاب سياسي، من دون رؤية إصلاحية شاملة، يحوله إلى تبرير للإفلات من العقاب وإعادة إنتاج ممارسات الماضي. إن إنقاذ المستقبل لا يمكن أن يتحقق دون إصلاح مؤسساتي يضمن التداول السلمي للسلطة، ودون مشروع اجتماعي جامع يذيب الانقسامات، ودون سياسات اقتصادية عادلة تقطع مع الامتيازات الريعية.
تطرح مسألة محاسبة الماضي سؤالا حساسا في كل انتقال سياسي هل يجب محاكمة القادة السابقين على أخطائهم وانتهاكاتهم؟ أم أن ذلك يهدد الاستقرار؟
التجارب المقارنة تظهر مسارات متعددة
جنوب إفريقيا اعتمدت لجنة الحقيقة والمصالحة (Truth and Reconciliation Commission)، حيث لم تكن المحاسبة قضائية بالمعنى الصارم، لكنها ركزت على كشف الحقائق والاعتراف العلني بها.
المغرب أنشأ هيئة الإنصاف والمصالحة (2004) للتحقيق في انتهاكات (سنوات الرصاص)، مع تقديم تعويضات للضحايا وإعادة الاعتبار لهم.
أمريكا اللاتينية: شهدت محاكمات حقيقية لجنرالات الانقلابات، خصوصا في الأرجنتين وتشيلي، لتأكيد مبدأ عدم الإفلات من العقاب.
هذه التجارب تبين أن المحاسبة لا تعني الانتقام، بل تمثل ضرورة سياسية وأخلاقية لترسيخ الذاكرة الوطنية، وضمان ألا تتكرر الانتهاكات.
من أكبر الإشكالات التي تواجه موريتانيا غياب تدوين من النخب السياسي التي واكبت الاحداث وصنعت بعضها من اطر فالحركات السريه كتدوين موضوعي لتاريخها السياسي المعاصر. فما زال تاريخ الانقلابات والحروب (الصحراء، أحداث1981-19841989-1991…) يروى بانتقائية، إما من منظور السلطة أو من منظور المعارضة السياسية، مع غياب التأريخ الأكاديمي المستقل.
إن تدوين هذا التاريخ ليس مجرد ترف فكري، بل هو شرط أساسي لبناء المستقبل
لأنه يوفر ذاكرة وطنية مشتركة للأجيال.
نمنع به تزييف الحقائق لصالح الانقلابيين أو النخب المسيطرة.
و بذالك نساهم في بلورة وعي جماعي بأن الخطأ السياسي له ثمن، وأن المسؤولية التاريخية لا تسقط بالتقادم.
إن إنقاذ المستقبل ومحاسبة الماضي ليسا خيارين متعارضين بالضرورة. بل إن التوازن بينهما هو السبيل الوحيد لتجاوز المأزق الموريتاني
إنقاذ المستقبل عبر إصلاح شامل مؤسسات دستورية راسخة، عدالة اجتماعية، مشروع وطني يدمج كل المكونات.
محاسبة الماضي عبر آلية وطنية مستقلة لجنة حقيقة ومصالحة موريتانية، تكشف الانتهاكات وتوثقها، مع ضمان حق الضحايا في الاعتراف والإنصاف.
هذا التوازن وحده هو الذي يحول دون استخدام الشعار كأداة في يد الانقلابيين لتبرير الاستمرار في الحلقة المفرغة.
فالسؤال الحقيقي الذي يواجه موريتانيا اليوم ليس هل نغفر الماضي لننقذ المستقبل؟ بل كيف نحاسب الماضي كي نضمن مستقبلًا مختلفًا؟
إن غياب المحاسبة يكرس الإفلات من العقاب، بينما غياب المشروع الإصلاحي يجعل من المحاسبة مجرد تصفية حسابات. وحده التوازن بين الاثنين، مدعومًا بتدوين تاريخ وطني جامع، قادر على إخراج البلاد من دوامة الانقلابات والانتكاسات، وفتح الطريق أمام بناء مستقبل عادل ومستقر.
المصدر :صحيفة رأي اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى