الأخبارالاقتصاد والتنميةتقارير ودراسات

كيف تنعكس الديون على اقتصادات الدول النامية؟

المصدر : إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

شهد العالم منذ عام 1970، وعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، أربع موجات رئيسية تراكمت خلالها الديون في عدد من الأسواق الناشئة والنامية والفقيرة، حتى باتت الديون سمة العصر الحديث. ولطالما اقترنت موجات الديون تلك بأزمات مالية، كأزمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، والأزمة المالية في آسيا في أواخر التسعينيات، والأزمة المالية العالمية في 2007–2009، وأخيراً أزمة الديون الإفريقية التي عايشتها القارة السمراء ولا تزال، على مدار العقدين الماضيين. وخلال العقد الأخير، شكَّل تفاقم حجم الدين الخارجي – ولا سيما في اقتصادات الأسواق الناشئة والنامية والبلدان الفقيرة – واحداً من أهم التطورات المالية على مستوى العالم، وأبرز المخاطر المؤدية إلى عدم الاستقرار المالي العالمي والتباطؤ في النمو الاقتصادي واضطراب الأسواق المالية في البلدان المقترضة، وهو الأمر الذي أجَّجته التداعيات الاقتصادية لجائحة كوفيد–19، وإرهاصات الحرب الروسية الأوكرانية. وفي الوقت الراهن، يعيش العالم في أزمة ديون متفاقمة؛ ما يثير التساؤلات حول مخاطر تفاقم معدلات الدين الخارجي وأثر تصاعدها في ظل عجز كثير من البلدان عن السداد.

 

مؤشرات تصاعدية

 

ثمة مؤشرات على تفاقم حجم الديون الخارجية وتصاعدها بوتيرة سريعة، بما يدفع إلى القول بأن العالم في الوقت الحالي بصدد أزمة ديون كبيرة، وهي ما يمكن تناولها على النحو الآتي:

 

1– ارتفاع إجمالي الدين العالمي: بلغ الدين العالمي، وفقاً لتقرير صادر عن معهد التمويل الدولي في 18 مايو الماضي، مستوى قياسياً قُدِّر بـ 305 تريليونات دولار في عام 2021؛ أي ما يعادل 356% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو ما لا يقتصر على الديون الحكومية فحسب، بل يشمل الديون العامة والخاصة والتابعة للشركات والأسر. ولعل ذلك المستوى من الدين المرتفع يُشكِّل ارتفاعاً بمقدار 30% في نسبة الدين العالمي إلى الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الخمس الماضية.

 

وهو كذلك قفزة أخرى في الدين العالمي القياسي لعام عام 2020 الذي بلغ 226 تريليون دولار، بحسب ما أفاد به صندوق النقد الدولي في قاعدة بيانات الديون العالمية، وهي قفزة مثلت في وقتها أكبر زيادة في الديون لمدة عام واحد منذ الحرب العالمية الثانية، على حد وصف الصندوق.

 

2– تفاقم مشكلة الديون في إفريقيا: في عام 2020، قُدِّر إجمالي رصيد الدين الخارجي لإفريقيا جنوب الصحراء بنحو 702.4 مليار دولار أمريكي، مقارنة بـ380.9 مليار دولار أمريكي في عام 2012، وهي زيادة بمقدار الضعف تقريباً، فيما ارتفع المبلغ المستحق للدائنين الرسميين، ومنهم المقرضون المتعددو الأطراف، والحكومات والوكالات الحكومية، من نحو 119 مليار دولار، إلى 258 مليار دولار.

 

ليس ذلك فحسب، بل صعدت الحرب الروسية في أوكرانيا من مخاطر الديون السيادية بمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء، خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية التي باتت تُكابِدها من جرَّاء ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة؛ فبحسب البنك الدولي في تقرير بعنوان “نبض إفريقيا”، صدر في 13 أبريل 2022، إلى أن نسبة البلدان الإفريقية المُعرَّضة لمخاطر الديون كبيرة؛ إذ ارتفعت من 52.6% في أكتوبر الماضي إلى 60.5%؛ فبينما تمثل نسبة الديون في السودان بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 210%، فإن تلك النسبة تُقدَّر في إريتريا بـ175% من إجمالي الناتج المحلي، فيما يمثل ذلك في الرأس الأخضر نحو 161%.

 

3– ارتفاع إجمالي حجم الديون في الدول المتقدمة: وفق تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، في 16ديسمبر 2021، فإن حجم الدين العام في الاقتصادات المتقدمة قد ارتفع بدرجة كبيرة، من نحو 70% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2007 إلى 124% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، فيما صعد الدين الخاص بمقدار طفيف من 164% إلى 178% من إجمالي الناتج المحلي في الفترة نفسها.

 

 تلك الزيادات يمكن إرجاعها إلى تسجيل الاقتصادات المتقدمة ارتفاعاً حاداً في عجز المالية العامة وانهياراً في معدل الإيرادات الحكومية نتيجة الركود في الآونة الأخيرة، وإجراءات الإغلاق التي استهدفت احتواء كوفيد–19. ووفق التقرير الذي صدر عن المعهد الدولي للمالية في مايو الماضي، فإن حجم الدين في اليابان بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي قُدِّر بنحو 257%، واليونان بنحو 207%. فيما تقود كل من الصين والولايات المتحدة الدين العام العالمي إلى مستويات قياسية، مع ارتفاع ديون الصين على مدار الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري بمقدار 2.5 تريليون دولار، وزيادة ديون الولايات المتحدة بنحو 1.5 تريليون دولار في الفترة ذاتها. في المقابل، فإنه للربع الثالث على التوالي، تراجعت مجمل الديون في منطقة اليورو.

 

4– تزايد حجم الدين في الأسواق النامية والناشئة: أدى التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى تفاقم المخاطر الاقتصادية العالمية، وارتفاع الديون في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، لتمثل ديون تلك الاقتصادات نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. فبالرغم من الانتعاش القوي الذي شهدته تلك الاقتصادات خلال العام الماضي، لا يزال هناك عجز مالي بها. وبحسب التقرير الصادر في مايو الماضي عن المعهد الدولي للمالية، فإن إجمالي ديون الاقتصادات الناشئة خلال الربع الأول من عام 2022، قد بلغ نحو 98.6 تريليون دولار مقابل 89 تريليون دولار في ذات الفترة في 2021.

 

وقد قدر المعهدُ الدينَ الحكومي في الاقتصادات الناشئة في الربع الأول من العام الجاري بنحو 24.6 تريليون دولار مقابل 21.6 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2021. ولعل ذلك من أبرز الأسباب الرئيسية التي أجبرت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة والنامية على تشديد السياسة المالية، من أجل رفع تكاليف الإقراض، في محاولة لاحتواء التزايد المستمر في معدلات الديون.

 

آثار جانبية

 

أسفر الارتفاع في حجم الدين الخارجي على نحو مطرد خلال العقود الأخيرة، عن عددٍ من الآثار الجانبية والتداعيات السلبية على اقتصادات بعض البلدان المقترضة. وفيما يأتي نسلط الضوء على تلك الانعكاسات:

 

1– إعاقة قدرة الدول على التوسع في الاستثمار: من المفترض أن يذهب جزء معتبر من الإيرادات الحكومية للدول المقترضة إلى خدمة ديونها، وهو ما يؤدي – بالتبعية – إلى إعاقة المستويات المفرطة للديون الخارجية قدرة البلدان على الاستثمار في مستقبلها الاقتصادي، سواء كان ذلك من خلال الاستثمار في البنية التحتية أو التعليم أو الرعاية الصحية، ومن ثم إحباط فرص النمو الاقتصادي على المدى الطويل.

 

2– العجز عن السداد نتيجة سوء إدارة الديون: وفق دراسة صادرة عن البنك الدولي بعنوان “Causes and consequences: Waves of Debt”، في ديسمبر من عام 2019، فإن ما يقرب من نصف الزيادات في معدلات الديون انتهت بأزمات مالية؛ الأمر الذي يرجع بدرجة كبيرة إلى سوء إدارة الديون التي ينتج عنها انهيار في أسعار السلع الأساسية والتباطؤ الاقتصادي الحاد، والتخلف عن السداد ومن ثم التورط في أزمة ديون، وهو ما يحدث غالباً لأن الدين الخارجي عادة ما يكون مقوماً بعملة بلد المُقرِض، لا بعملة المقترض؛ ما يعني أنه إذا ضعفت العملة في البلد المقترض، فسيكون من الصعب خدمة تلك الديون.وهو ما يمكن التدليل عليه بأسوأ الأزمات الاقتصادية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، نتيجة ارتفاع مستويات الديون الخارجية، ومنها الأزمة المالية الآسيوية، وأزمة الديون في كل من اليونان والبرتغال، وأزمة ديون منطقة اليورو.

 

3– تزايد التكلفة البشرية للديون الخارجية: بالإضافة إلى المعاناة البشرية الناتجة عن الركود الاقتصادي بسبب الارتفاع في نسب البطالة وزيادة معدلات الفقر، فإن الأمم المتحدة قد ربطت المستويات المرتفعة من الديون واعتماد الحكومة على المساعدات الخارجية بانتهاكات حقوق الإنسان؛ إذ بحسب الأمم المتحدة، فإن الضائقة المالية التي تكابدها الحكومات في ظل تفاقم الديون، غالباً ما تدفعها إلى خفض الإنفاق الاجتماعي وتقليل الإنفاق من الموارد – التي تمتلكها بالفعل – في دعم مواطنيها، علاوة على فرض معايير وشروط قاسية للعمل تنافي في مجملها حقوق الإنسان.

 

4– تباطؤ النمو الاقتصادي وضعف التنمية: نتيجة تراكم الديون في العديد من البلدان النامية والفقيرة، يحدث أن ينخفض الاستثمار العام. وما يزيد من تعقيد المسألة، تسارع وتيرة الديون مقابل تباطؤ النمو الاقتصادي، بما يعني ضعفاً في نتائج التنمية والبطء في مساعي الحد من الفقر. ووفقاً للبنك الدولي، فإن ارتفاع مستوى الديون وما يفرضه من أعباء متزايدة من بين العوامل التي تؤدي إلى تباطؤ معدل النمو الاقتصادي في إقليم جنوب الصحراء في إفريقيا إلى 3.6 % خلال العام الجاري؛ وذلك بتراجع عن تقديرات بنمو بنحو 4% في عام 2021. وتكمن الخطورة هنا في أن يرتفع الدين ارتفاعاً أسرع من قدرة البلاد الحقيقية على خدمة الديون، وهو ما يحدث عندما لا يقابل الزيادةَ في الدين الخارجي ارتفاعٌ مماثل في إنتاج السلع والخدمات؛ الأمر الذي يمكن أن يحدث في عدة حالات، كأن يصب الدين الحكومي في الإنفاق الدفاعي أو يتجه نحو الاستثمار غير المنتج في البنية التحتية.

 

5– تشوهات في البنية الاقتصادية: يمكن أن يؤدي ارتفاع الديون إلى تشويه الاقتصاد على نحو مباشر، كأن يترتب على الدين المتفاقم خلق مستويات عالية من التضخم، علاوة على سيادة حالة من عدم اليقين في الأعمال التجارية، وعدم ثقة المستثمرين ببيئة الأعمال الموجودة في الدولة المقترضة، ومن ثمتراجع فرص الاستثمار في القطاعات الاقتصادية المحفوفة بالمخاطر، وربما يؤدي ارتفاع حجم الدين الخارجي في النهاية إلى عجز تجاري وتفاقم في معدلات البطالة.

 

6– فقدان القطاعات الاقتصادية القوة الشرائية: في حالة تفاقم الديون،تفقد بعض القطاعات الاقتصادية قوتها الشرائية إلى الدرجة التي تجعلها غير قادرة على موازنة العرض والطلب؛ إذ يدرك كل قطاعٍ المخاطرَ ويُغيِّر سلوكه لحماية نفسه من الاضطرابات. تلك التغييرات السلوكية من شأنها أن تؤدي إلى إبطاء النمو، فتتفاقم تكاليف التكيف التي يجب أن يتحملها الوكلاء الاقتصاديون في ظل بيئة اقتصادية يخيم عليها التعثرات المالية.

 

تهديد الاستقرار

 

منذ عام 2010، شهد العالم أحدث وأوسع زيادة في ديون العديد من الاقتصادات، غير أن تلك الزيادات انتهت بأزمات ديون في بعض الدول في ظل عجزها عن السداد؛ لذا تتجه أغلب اقتصادات العالم، حتى المتقدمة والنامية والناشئة، إلى تشديد السياسة المالية ورفع تكلفة الإقراض؛ لوضع حد أمام الوتيرة المتسارعة التي تزداد بها الديون على نحو جارف، والتي تؤثر على اقتصادات الدول المقترضة بدرجة كبيرة.

 

وما يزيد الوضع خطورةًمحدوديةُ قدرة الدول على دعم الأسر التي تكابد أزمات معيشية ناتجة عن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، في ظل ارتفاع معدل التضخم العالمي إلى 9.2% في مارس 2022، ارتفاعاً من 7.5% في فبراير 2022، وفقاً لمؤشر أسعار المستهلك. والتوقعات أن يستمر هذا الارتفاع في الفترة القادمة؛ ما يزيد مؤشرات عدم الاستقرار واحتمالية نشوب حروب أهلية وصراعات حول العالم، بحسب توقعات البنك الدولي.

إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى