شاعرة العرب المرموقة د سعاد الصباح تكتب : عبدالله المبارك الصباح.. رجل الدولة.. الأب.. والقلب
في زمنٍ كانت فيه المنطقة تغلي على بقايا استعمار ينسحب من مناطق، ويمثل دور المنسحب في مناطق أخرى، وتتهيأ المنطقة لولادة الدول الحديثة، كان حضور بطل من أبطال دولة الكويت، رجل حمل قلب الوطن بين يديه، وسمع العالم صدى حضوره، هو الشيخ عبدالله المبارك الصباح، نائب حاكم الكويت، ورجل الدولة المهيب في السياسة والأمن والتعليم.
لم يكن عبدالله المبارك مجرد اسمٍ في دفاتر الحكم، بل كان نَفَساً في صدر الكويت، يمدها بالحكمة حين تشتدّ العواصف، ويحتضن أهلها كما يحتضن الأب أبناءه حين يتلمّسون الطريق.
في ممرات السياسة العربية المتقلبة، كان وجهه مألوفاً، وابتسامته صادقة، ويده مبسوطة لكل من أراد أن يصافح السلام لا الحرب. وقف إلى جانب قضايا الأمة، مدركاً أن الكويت لا يمكن أن تعيش بمعزل عن محيطها العربي الكبير.
اتسعت خيمته لأبناء الخليج، وامتدت صداقاته من القاهرة إلى بيروت، ومن الرياض إلى الرباط. لم تكن علاقاته الدولية رفاهية، بل ضرورة لحماية وطن صغير في جغرافيا كبرى تعجّ بالتقلّبات.
عرفه زعماء العالم رجلاً نبيلاً لا يُساوِم على المبادئ، ولا يغلق بابه في وجه حليفٍ أو محتاج. كانت الدبلوماسية في حديثه لا تعني المراوغة، بل التوازن، والتاريخ يشهد على بصيرته التي سبقت زمانها.
أما في الكويت، فقد كان جامعاً للقلوب، يسير بين الناس لا حارساً فوق رؤوسهم، بل رفيقاً في أفراحهم وأتراحهم. لم يعلُ على الناس بل كان منهم، حتى صار اسمه رمزاً للعدل، وصوته صوت العقل في زمن الغليان.
في الأمن، كان صمّام الأمان، أسّس أولى اللبنات لجهاز الشرطة الحديث، فحفظ أمن البلاد قبل أن تتشيد المؤسسات النظامية. وكان أول من أدخل الطيران إلى الجيش الكويتي، مؤمناً بأن سماء الوطن يجب أن تُحمى كما تُحمى أرضه.
لم يكن رجلاً عسكرياً فحسب، بل كان راعياً للفكر، وأباً للعلم، ومشجعاً للطلبة. فتح أبواب المنح الدراسية وبنى المنابر التعليمية، وشجّع الكفاءات، وأرسل الطلائع الأولى إلى الخارج ليعودوا سفراء علم ومعرفة.

أحبّ الطيارين، وكان يرى فيهم رمزية الانطلاق والعلو. فأسّس أول نواة للطيران العسكري في الكويت، ووضع البذرة التي نمت لاحقاً، لتكون جناح البلاد الحامي.. كما رعى الثقافة والأندية الأدبية والمحاضرات التوعوية والمسابقات الكشفية.
ومن بين صفوف الأمن، إلى مقاعد التعليم، كان دائماً حريصاً على أن تكون للعلم مكانة لا تُمس. دعم المدارس، وشجع المعلمين، ووقف إلى جانب كل مشروع يُعلي من شأن الفكر والعقل.
أما في بيته، فقد كان المثال الذي يُحتذى، زوجاً وفياً، وأباً رؤوفاً، ومربّياً يؤمن بأن تربية النفس أولى من تزيين المظهر.
في جلساته مع أبنائه، كانت الحكمة تُلقَى بسلاسة، والتوجيه يأتِي محمّلاً بالمحبة لا التوبيخ.. أعطى للجميع حرية الرأي وفرصة الحديث ودعم حق المرأة واحترم رغبة الطفل.
زرع في بيته ما زرعه في وطنه: المحبة، والانضباط، والإيمان بأن خدمة الآخرين هي شرف الإنسان. وكان يفرح حين يرى أبناءه يحملون المسؤولية كما حملها من قبلهم.. ويحملون علم الكويت في قلوبهم وقضايا الناس في أرواحهم.
كان رجل ميدان، يمشي حيث يمشي الناس، ويعرف الشوارع والبيوت والوجوه كما يعرف اجتماعات القرار. كان يربط بين الحاكم والمحكوم بخيطٍ من الأخلاق والانتماء الصادق.
ترك بصماته في كل زاوية من زوايا الدولة الحديثة، في الأمن، في الإعلام، في القضاء، في التعليم، في الصحافة. لم يُهمِل جانباً، وكان يرى أن بناء الدولة لا يكون بالمال فقط، بل بصدق النية والإخلاص وجديّة العمل.
حتى حين اعتزل المناصب، ظلّ حضوره طاغياً، وصيته في القلوب لا يحتاج إلى كرسي أو لقب.. وكأن حبّ الناس لا يُؤخذ، بل يُزرع عبر السنين، وهذا ما فعله عبدالله المبارك بهدوء الواثقين.
أما النساء فكان لهن عنده تقدير خاص، وشجّع بنات الوطن على التعليم كما شجّع أبناءه، ورأى أن وطناً يُقصي نصفه لا يُكتب له النهوض، فكان ناصراً للمرأة من قلبه لا من أجل الاستعراض.
إذا تحدّثت الكويت عن رموزها، فلا يمكن أن تغفل اسم هذا الرجل. فقد كان أحد من صنعوا ملامح الدولة الحديثة، ولم يبحث عن المجد، بل جعل المجدُ يلحق به.
بقيت صورته محفورة في وجدان جيلٍ كامل، شاهدة على مرحلة دقيقة كانت البلاد فيها تخطو من زمن الإمارة إلى زمن الدولة، وكان هو مع رجال الكويت الجسر الذي عبرت عليه الكويت بأمان.
في مذكراته، في أقوال من عرفوه، في الوثائق الرسمية، تتجلى صورة عبدالله المبارك الصباح رجلاً متعدد الأبعاد، لكنه واحد في الإخلاص، والاتزان، والكرامة.
رحل الجسد، لكن السيرة بقيت، وسيرة عبدالله المبارك الصباح ليست أوراقاً في أرشيف الدولة، بل هي دروس حية في فن القيادة، وإنسانية الحاكم، وصدق الولاء.
لقد رحل يوم 15 يونيو 1991 بعد أشهر قليلة من تحرير الكويت من الاحتلال، حين اطمأن أن الأرض عادت لأهلها.. وقد أدى الأمانة تجاه وطنه كاملة، حين ختمها بإرسال أبنائه في ميادين العمل والقتال، فكان الابن محمد أول من رفع علم الكويت على قطعة محررة من الوطن.. مع الطليعة الأولى لجيوش التحالف الدولي..
رحم الله آخر أنجال مبارك الكبير.. فقيد الكويت الكبير.
المصدر : القبس