مقاربة حول البداوة ومفّردة القبيلة وتدرّجهما في اطْوارالحياة / البانوسى بن عثمان

البداوة هى سليلة القبيلة ونتاجها ايضا . فعقل وأيادي وفعل هذه الاخيرة مُجّتمعتا . هو من شكّل وصاغ مفردات تلك . وجسّدها وانزلها محّسوسات الى دنيا الواقع , بعدما خلع عليها مسمياتها . وبهذا صار للبداوة كيان ما فتأ ينمو ويكبر ويتسع حتى احتوى الصحراء وما عليها . فصارت الصحراء وعائها وجسمها في آن . فابتلع هذا الاتساع الممتد الذى لا ينتهى الا عند الافق كل القبيلة بقضها وقضيضها . فصارت القبيلة بهذا مفردة من مفردات البداوة .
ومن هنا تكون البداوة كأي كائن اخر على هذه الارض . ينمو ويكبر ويتطور , ويضّمر ويتلاشى , عندما تختفى البيئة التى تُهيأ وتُساعد على تخلّقه وانبعاثه في الوجود . ونمو هذا الكائن – البداوة – وتطوره ايجابا او سلبا سيطال وبالضرورة كل مفرداتها . لأن النمو والتطور الذى قد يعيد صياغة البداوة , ما هو الا نتاج تفاعل نًشطْ بين مفرداتها مع محيطها , بكل ما يحمل هذا المحيط من مضامين مادية ومعنوية . وبفعل هذا النشاط ايضا , تتخذ هذه المفردات صور ووجوه جديدة . تنتقل بفعّلها البداوة الى طور اخر في سيرورتها .
فمثلا . عندما يتخذ النمو والتطور داخل هذا الكيان البدائي وجه إيجابي , سينّحو بالبداوة ودائما صوب الاستقرار والتحضّر . فالقبيلة مثلا . كمفردة اساسية من مفردات البداوة , ستتأثر بالضرورة بتفاعل البداوة مع الواقع والمحيط , وسيترك هذا النشاط صداه علي القبيلة في مكوناتها . فمثلا . فمن بناء بدائى بسيط يتشكّل قوامه من شيخ واتباع , وراعى ورعية , وملاحق كل ذلك في شكّله الاولى المُغلق . تصير القبيلة وبفعل هذا النشاط . تنهض على وجه اخر من المكونات , تتخذ هيئة ما يُعرف بالأسر الممتدة (عيّت مريم) (عيّت عامر) (عيت المنتصر) الخ . وهذه الممتدة ومع صيرورة الزمن القَبلي تتحول الى بيوتات . قد يصير للبعض منها بفعل نشاطها المنتج والمتميز , مكانة ترّفعها عن سواها من البيوت. فيقال عنها (بيت مال) او(بيت عِلم) او(بيت سياسة) وغيرها وهكذا . ومن هنا يتراجع المفهوم البدائي البسيط المغّلق للقبيلة الى العدم . ليتخذ وجه اخر مُحمّل بقدر من التركيب , يتوافق مع الواقع الجديد . الذى يتدرّج صوّب الاستقرار والتحضّر .
كنت احول ان اصل الى القول من خلال ما سبق طرحه . بان كل تدخل في مسار التطور الطبيعي للقبيلة , بغرض اعاقته او وقفه او العمل على اعادت هذا الكيان الى حالة البدائية الاولى , وبعثه في الحاضر . هو عمل غير طبيعى . يحمل في فِعّله ضرر سيُرّبك الحياة في حراكها . وسيشل ويقلل من ايقاع وتيرتها الساعية ودائما نحو التطور والتقدم نحو الامام .
وبقول اخر .ان كل سعى نحو تحّفيز هذا الكيان البدائى , واستدعائه الى الان في حاضرنا هذا . لا يعدوا عن كوّنه . وبوضوح تام . الا محاولة لمنع هذا الكيان البدائى عن الانفتاح على آفاق اجتماعية ارحب واوسع في طوّر متقدم من اطوار الحياة . والرجوع به الى راحلته ورحيله وترحاله الدائم في تنقل ابدى خلف الكلأ والماء في صوره ووجوهه الجديدة , اينما حلَ ووُجِد . وهو وبوجه اخر من القول . عودة الى الصحراء في صورتها المجازية . حيت التصحّر يكّتسح ويلتهم كل شيئي في طريقه . ولا يُبّقى بعده سوى الخواء بصفيره البائس , يتردد صداه في جنبات سًكون مغلق ورهيب . في كنفْ عالم موازى يرّتع في آفاق الجينوم والرقمّية والخريطة الوراثية والنانو بعدما تخطى عصر الذرة . ففى تقديرى ان كل فعل يهدف الى تحفيز واستدراج وبعث هذا الكيان في هيئاته البدائية , والعمل على تجّديره وجعله من مفردات الحاضر المعاش , بعدما تخطاه الزمن وشكّله في هيئة طور اخر من اطوار الحياة في مسيرتها الدائمة نحو الامام . ما هو الا فعل غير طبيعي تعسفي مُحمل باستفهامات مشّبوهة تُطاول في حجمها خيانة للحياة في تطورها وتقدمها الدائم نحو الامام .
ومن واقع الحياة التى نعيشها داخل نطاقنا الجغرافي المحلى والإقليمي . نستطيع ان نُشاهد ونُحس وبدون عناء كبير . فداحة ما الحق هذا الكيان البدائى المغلق . من تخلف وجمود وتسمّر على هامش الحياة للجغرافيات التى حَفّزته وبَعثته في ارجائها على هيئيه الاولية المغّلقة . رغم ما تحتوى هذه الجغرافيات من امكانيات هائلة في موارد طبيعية ومعنوية . لو وُظّفت واُديرة على نحو جيد . لتخطّت بها حياة التَسَمّرْ على الهوامش والاطراف . وصارت ملْ عين الحياة وسمّعها .
ويكون الحال اكثر قتامة داخل هذه الجغرافيات ,. عندما يشّتد عود هذا الكيان البدائى المغّلق . عندها سيسعى ويعمل بكل جد وجهد على احتواء وتطويع وتوظيف كل ما ينتجه محيطه ماديا ومعنويا . ليوُظفه في خدمة تطوّر مساره السلبى المغلق . والجغرافيا السعودية بامتداداتها جنوبا وشرقا , قد تمثل وعلى نحو جيد ما نحتاجه من شواهد تعزز ما دهبنا اليه . ففى النصف الاول من القرن الفائت , وبعدما وضعت صحراء نجّد يدها بفعل هذا الكيان القبَلي المغلق , على كل هذا الامتداد الجغرافى الشاسع , وصارت تعمل على تجّدِيره بداخله . بكل الوسائل والسبل التى تسهّل استدعاء الظروف المُحفزة على ذلك . لم يلبت هذا الكيان عندما اشّتد عوده , حتى شرع وسعى صوب احتواء وتطوّع كل ما يقع بين يديه وما يأتي به محيطه داخل هذا الامتداد الجغرافي , ليجعل منه اداة في خدمته وطوّع مشيئته . فحتى ما جاء به – في تقديرى – ابن عبد الوهاب في ذلك الحين , والذى كان يهدف ويحاول به – في اعتقادى – لكسر هذا الانغلاق البدائى وجرّه الى طور متقدم من اطوار الحياة . استطاع هذا الكيان بفعل تجدّره , من احتواء مسّعى هذا الشيخ . ولم يهدى حتى تمكن من تطّويعه . ليكون خادم له وفى خدمة هذا الانغلاق البدائى , على مدار قرابة قرن من الزمان ولا يزال .
وفى النهاية وبعد كل هذا اقول . لا يوجد احد ينّحاز للحياة في تطورها وتقدمها الى الامام على الجغرافيا الليبية , يُحبّذ ويسعى نحو استدعاء هذا الكيان البدائى وبعثه في الوجود عليها , وتمّكينه من دواليب ادارة شئونها , بعقّله المغلق الذى ينّزع ودائما نحو الصحراء والتصحّر . وان وُجِد من يُحبذ ويسعى لذلك . ربما – وفي تقديرى – لا يتخطّى السيد (ميلتْ) . ولسبب غاية في البساطة . لان اسلافه مع نهايات الحرب العالمية الاولى , وبعدما بيتوا امر استغّفال هذا الكيان البدائى , وتمكنوا من امتطى صهوة جواده وظهر بعيره . و استطاعوا ومن فوقهما , دحر جيوش الاتراك خارج جغرافية الجزيرة وامتداداتها . ثم اسسوا مند ذلك الزمن وحتى وقتنا هذا . لكل ما يعصف بشرق المتوسط وغربه والامتداد الجغرافى الذى يربط ما بينهما . مُتكئين في ذلك على تنّظير وتخطيط سايس- بيكو وعهد اللورد بلفور . فهؤلاء الاسلاف وبعدما تمكنوا من تدّجين وتطّويع هذا البدائى , لإرادتهم . لا اعتقد .بانهم يحبذون رؤيته في طوّر متقدم من اطوار الحياة . فاعّدرونا ايها السادة , وبعد كل هذا . لا تحاولوا إلباس هذا البدائى بدلة عصّرية انيقة برباط عنق جميل يتدلى على صدر قميصه . وتجعلوا لسانه الفصيح بالفطّرة , يتلفظ بمفردات وصياغات حديثة . في محاولة منكم لتلميع صورته , وتسّويقه كبديل ايجابى , لهذا الكل السيئ الذى يحتل كل المشهد صوت وصورة على جغرافية بلادنا . فهما وبصريح القول وجهين لذات العمّلة .